صدقة جارية
تفسير اية رقم ١٠٢_١٠٣
من سورة ال عمران
﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ (١٠٢) وَٱعۡتَصِمُوا۟ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِیعࣰا وَلَا تَفَرَّقُوا۟ۚ وَٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَاۤءࣰ فَأَلَّفَ بَیۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦۤ إِخۡوَ ٰنࣰا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةࣲ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَ ٰلِكَ یُبَیِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَایَـٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ (١٠٣)﴾ [آل عمران ١٠٢-١٠٣]
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنان، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ وشُعْبَة، عَنْ زُبَيْد الْيَامِيِّ، عَنْ مُرَّة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ- ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ قَالَ: أَنْ يُطاع فَلَا يُعْصَى، وَأَنْ يُذْكَر فَلَا يُنْسَى، وَأَنْ يُشْكَر فَلَا يُكْفَر(١) .وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ مَوْقُوفٌ، [وَقَدْ تَابَعَ مُرَّةَ عَلَيْهِ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ](٢) .وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدُويه مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ(٣) عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنِ ابْنِ وَهْب، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ زُبَيْد، عَنْ مُرَّة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أَنْ يُطَاعَ فَلا يُعْصَى، وَيُشْكَرَ فَلا يُكْفَرَ، ويُذْكَر فَلا يُنْسَى".وَكَذَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، مِنْ حَدِيثِ مِسْعَر، عَنْ زُبَيْد، عَنْ مُرَّة، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، مَرْفُوعًا فَذَكَرَهُ. ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. كَذَا قَالَ. وَالْأَظْهَرُ(٤) أَنَّهُ مَوْقُوفٌ(٥) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ورُوي نحوهُ عَنْ مُرة الهَمْداني، وَالرَّبِيعِ بْنِ خُثَيم، وعمرو بن ميمون، وإبراهيم النَّخَعي، وطاووس، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَأَبِي سِنان، والسُّدِّي، نحوُ ذَلِكَ.[وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَتَّقِي الْعَبْدُ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ حَتَّى يُخْزَنَ مِنْ لِسَانِهِ](٦) .وَقَدْ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ جُبَير، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَقَتَادَةُ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيّان، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، والسُّدِّي وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التَّغَابُنِ:١٦] .وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ قَالَ: لَمْ تُنْسخ، وَلَكِنْ ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أَنْ يُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ حَقَّ جِهَادِهِ، وَلَا تَأْخُذْهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَة لَائِمٍ، وَيَقُومُوا بالقِسْط وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَآبَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أَيْ: حَافَظُوا عَلَى الْإِسْلَامِ فِي حَالِ صِحَّتِكُمْ وَسَلَامَتِكُمْ لِتَمُوتُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْكَرِيمَ قَدْ أَجْرَى عَادَتَهُ بِكَرَمِهِ أَنَّهُ مَنْ عَاشَ عَلَى شَيْءٍ مَاتَ عَلَيْهِ، وَمَنْ مَاتَ عَلَى شَيْءٍ بُعث عَلَيْهِ، فَعِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ خِلَافِ ذَلِكَ.قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْح، حَدَّثَنَا شُعْبة قَالَ: سمعتُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ، وابنُ عَبَّاسٍ جَالِسٌ مَعَهُ مِحْجَن، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ وَلَوْ أنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ قُطِرَتْ لأمَرّتْ عَلَى أهْلِ الأرْضِ عِيشَتَهُمْ(٧) فَكَيْفَ بِمَنْ لَيْسَ لَهُ طَعَامٌ إِلَّا الزَّقُّومُ".وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّان فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، من طُرُقٍ عَنْ شُعْبَةَ، بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ(٨) .وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْب، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ أَحَبَّ أنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّار وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَلْتُدْرِكْهُ مَنِيَّتُهُ، وَهُوَ يُؤْمِنُ(٩) بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، ويَأْتِي إلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أنْ يُؤتَى إلَيْهِ "(١٠) .وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ: "لَا يَمُوتَنَّ أحَدُكُمْ(١١) إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، بِهِ.وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، حَدَّثَنَا [أَبُو](١٢) يُونُسَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ اللهَ قَالَ: أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فإنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ، وَإنْ ظَنَّ شَرا فَلَهُ "(١٣) .وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ(١٤) مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "يَقُولُ اللهُ [عَزَّ وَجَلَّ](١٥) أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي"(١٦) .وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ القُرَشي، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ -وَأَحْسَبُهُ-عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مَرِيضًا، فَجَاءَهُ النَّبِيُّ ﷺ يَعودُه، فَوَافَقَهُ فِي السُّوقِ فسلَّم عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: "كَيْفَ أنْتَ يَا فُلانُ؟ " قَالَ(١٧) بِخَيْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أرجو الله أخاف ذُنُوبِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ إِلَّا أعْطَاهُ اللهُ مَا يَرْجُو وآمَنَهُ ممَّا يَخَافُ".ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ ثَابِتٍ غَيْرَ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِهِ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ. وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ ثَابِتٍ مُرْسَلًا(١٨) .فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعبة، عَنْ أَبِي بِشْر، عن يُوسُفَ بْنِ مَاهُك، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَام قَالَ: بايعتُ رسولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى أَلَّا أخِرَّ إِلَّا قَائِمًا. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ شُعْبَةَ، بِهِ، وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ فَقَالَ: (بَابُ كَيْفَ يَخِرُّ لِلسُّجُودِ)(١٩) ثُمَّ سَاقَهُ مِثْلَهُ(٢٠) فَقِيلَ: مَعْنَاهُ: عَلَى أَلَّا أَمُوتَ إِلَّا مُسْلِمًا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: [عَلَى](٢١) أَلَّا أُقتل إِلَّا مُقبِلا غَيْرَ مُدبِر، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾ قِيلَ ﴿بِحَبْلِ اللَّهِ﴾ أَيْ: بِعَهْدِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ [آلِ عِمْرَانَ:١١٢] أَيْ بِعَهْدٍ وَذِمَّةٍ(٢٢) وَقِيلَ: ﴿بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ﴾ يَعْنِي: الْقُرْآنَ، كَمَا فِي حَدِيثِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ، عَنْ علِيّ مَرْفُوعًا فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ: "هُوَ حَبْلُ اللهِ الْمتِينُ، وَصِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ".وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ خَاصٌّ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ(٢٣) مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ العَرْزَمي، عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ [أَبِي](٢٤) سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "كِتَابُ اللهِ، هُوَ حَبْلُ اللهِ الْمَمْدُودُ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الأرْضِ"(٢٥) .وَرَوَى ابْنُ مَرْدُويَه مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُسْلِمٍ الهَجَريّ، عَنْ أَبِي الأحْوَص، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ حَبْلُ اللهِ الْمتِينُ، وَهُوَ النُّورُ الْمُبِينُ وهُوَ الشِّفَاءُ النَّافِعُ، عِصْمةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، ونَجَاةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهُ"(٢٦) .وُروي مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ نَحْوُ ذَلِكَ. [وَقَالَ وَكِيع: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ هَذَا الصِّرَاطَ مُحْتَضَرٌ تَحْضُرُهُ الشَّيَاطِينُ، يَا عَبْدَ اللَّهِ، بِهَذَا الطَّرِيقِ هَلُمَّ إِلَى الطَّرِيقِ، فَاعْتَصَمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ فَإِنَّ حَبْلَ اللَّهِ الْقُرْآنُ](٢٧) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا تَفَرَّقُوا﴾ أمَرَهُم بِالْجَمَاعَةِ وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّفْرِقَةِ(٢٨) وَقَدْ وَرَدَتِ الأحاديثُ الْمُتَعَدِّدَةُ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالْأَمْرِ بِالِاجْتِمَاعِ وَالِائْتِلَافِ(٢٩) كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سُهَيل بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: "إنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا، يَرْضى لَكُمْ: أنْ تَعْبدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وأنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا، وأنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلاهُ اللهُ أمْرَكُمْ؛ وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا: قيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وإِضَاعَةَ الْمَالِ"(٣٠) .وَقَدْ ضُمِنتْ لَهُمُ العِصْمةُ، عِنْدَ اتِّفَاقِهِمْ، مِنَ الْخَطَأِ، كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الْمُتَعَدِّدَةُ أَيْضًا، وخِيفَ عَلَيْهِمُ الِافْتِرَاقُ، وَالِاخْتِلَافُ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ فَافْتَرَقُوا عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، مِنْهَا فِرْقَةٌ(٣١) نَاجِيَةٌ إِلَى الْجَنَّةِ ومُسَلمة مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَهُمُ الَّذِينَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ رسولُ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا](٣٢) ﴾ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَهَذَا السِّيَاقُ فِي شَأْنِ الأوْس والخَزْرَج، فَإِنَّهُ كَانَتْ(٣٣) بَيْنَهُمْ حُروبٌ كَثِيرَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَعَدَاوَةٌ شَدِيدَةٌ وَضَغَائِنُ، وإحَنٌ وذُحُول(٣٤) طَالَ بِسَبَبِهَا قِتَالُهُمْ وَالْوَقَائِعُ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ فَدَخَلَ فِيهِ مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ، صَارُوا إِخْوَانًا مُتَحَابِّينَ بِجَلَالِ اللَّهِ، مُتَوَاصِلِينَ فِي ذَاتِ اللَّهِ، مُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ](٣٥) ﴾ [الْأَنْفَالِ:٦٢] وَكَانُوا عَلَى شَفَا حُفْرة مِنَ النَّارِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، فَأَبْعَدَهُمُ(٣٦) اللَّهُ مِنْهَا: أنْ هَدَاهُم لِلْإِيمَانِ. وَقَدِ امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ رسولُ اللَّهِ ﷺ يوم قَسَم غَنَائِمَ حُنَيْنٍ، فَعتَبَ مَنْ عَتَبَ(٣٧) مِنْهُمْ لَمَّا فَضَّل عَلَيْهِمْ فِي القِسْمَة بِمَا أَرَاهُ اللَّهُ، فَخَطَبَهُمْ فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ، ألَمْ أجدْكُمْ ضُلالا فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَألَّفَكُمُ اللهُ بِي، وَعَالَةً فأغْنَاكُمْ اللهُ بِي؟ " كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ.وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسار وَغَيْرُهُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ مَرَّ بِمَلَأٍ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَسَاءَهُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِاتِّفَاقِ والألْفَة، فَبَعَثَ رَجُلًا مَعَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَهُمْ وَيُذَكِّرَهُمْ(٣٨) مَا كَانَ مِنْ حُرُوبِهِمْ يَوْمَ بُعَاث وَتِلْكَ الْحُرُوبِ، فَفَعَلَ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دأبُه حَتَّى حَمِيَتْ نُفُوسُ الْقَوْمِ وَغَضِبَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَتَثَاوَرُوا، وَنَادَوْا بِشِعَارِهِمْ وَطَلَبُوا أَسْلِحَتَهُمْ، وَتَوَاعَدُوا إِلَى الْحَرَّةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ فَأَتَاهُمْ فَجَعَلَ يُسكِّنهم وَيَقُولُ: "أبِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ وأَنَا بَيْنَ أظْهُرِكُمْ؟ " وَتَلَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ، فَنَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ، وَاصْطَلَحُوا وَتَعَانَقُوا، وَأَلْقَوُا السِّلَاحَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ(٣٩) وَذَكَرَ عِكْرِمة أَنَّ ذَلِكَ نَزَلَ فِيهِمْ حِينَ تَثَاوَرُوا فِي قَضِيَّةِ الإفْك. والله أعلم.
(١) في جـ: "أن يشكر فلا يكفر وأن يذكر فلا ينسى".
(٢) زيادة من و.
(٣) في أ: "عن".
(٤) في أ، و: "الأشهر".
(٥) المستدرك (٢/٢٩٤) .
(٦) زيادة من جـ، ر، و.
(٧) في أ، و: "عيشهم".
(٨) المسند (١/٣٠١) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١١٠٧٠) والمستدرك (٢/٢٩٤) .
(٩) في ر: "مؤمن".
(١٠) المسند (٢/١٩٢) .
(١١) في أ، و:"أحد منكم".
(١٢) زيادة من ر.
(١٣) المسند (٢/٣٩١) .
(١٤) في جـ: "الصحيح".
(١٥) زيادة من أ.
(١٦) صحيح البخاري برقم (٧٥٠٥) مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وصحيح مسلم برقم (٢٦٧٥) مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
(١٧) في جـ: "فقال".
(١٨) سنن الترمذي برقم (٩٨٣) وسنن ابن ماجة برقم (٤٢٦١) ورواه ابن أبي الدنيا في "حسن الظن بالله" برقم (٣١) وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب (٤/٢٦٨) .
أما المرسل: فرواه ابن أبي الدنيا في "المرضى والكفارات" برقم (١٠٨) ومن طريقه البيهقي في شعب الإيمان من طريق حماد عن ثابت عن عبيد بن عمير مرسلا.
(١٩) المسند (٣/٤٠٢) وسنن النسائي (٢/٢٠٥) .
(٢٠) في جـ، أ: "عليه".
(٢١) زيادة من أ.
(٢٢) في ر: "بعهد ذمة".
(٢٣) في أ: "عن".
(٢٤) زيادة من جـ.
(٢٥) تفسير الطبري (٧/٧٢) وفي إسناده عطية العوفي وهو ضعيف.
(٢٦) ورواه الحاكم في المستدرك (١/٥٥٥) وابن أبي شيبة في المصنف (١٠/٤٨٢) وابن حبان في المجروحين (١/٩٩) وابن الجوزي في العلل المتناهية (١/١٠١) وقال: "هذا حديث لا يصح عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ويشبه أن يكون من كلام ابن مسعود".
(٢٧) زيادة من و.
(٢٨) في أ، و: "الفرقة".
(٢٩) في جـ: "بالائتلاف والاجتماع".
(٣٠) صحيح مسلم برقم (١٧١٥) .
(٣١) في ر: "فرقة منها".
(٣٢) زيادة في جـ، ر، أ، و.
(٣٣) في أ: "قد كان"، وفي و: "قد كانت".
(٣٤) في ر: "دخول". وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه.
(٣٥) زيادة من و.
(٣٦) في أ، و: "فأنقذهم".
(٣٧) في جـ، ر: "فعنت من عنت".
(٣٨) في جـ، ر، أ، و: "ويذكر لهم".
(٣٩) انظر: تفسير الطبري (٧/٧٨، ٧٩) .
(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))