السبت، 23 يونيو 2012
الإمام الشافعي
عودة لقائمة الشخصيات الاسلامية
عودة للصفحة الرئيسية
الشافعى
قاضي الشريعة.. وخطيب الفقهاء
على الرغم من أن الإمام الشافعي لم يكن قاضيا في مصر قط، فإن أهل مصر يسمونه «قاضي الشريعة».. وما زال العديد من أصحاب الحاجات الذين لم ينالوا حظا من التعليم يتجهون الى ضريح الإمام الشافعي في الحي المعروف باسمه في القاهرة، فيقدمون الظلامات، ويسألون الله تعالى أن يقضي لهم حاجاتهم، ويرد عنهم الظلم، متوسلين بالإمام الشافعي قاضي الشريعة.
وقد شاع بني أهل مصر أن الإمام الشافعي هو قاضي الشريعة، منذ قدم الى مصر عام 199هـ، وهو يخطو الى الخمسين، رجلا طويلا ممشوق القامة، فارسا، أسمر كأبناء النيل، بشوشا ضاحك الوجه. مهذب اللحية، يصبغ لحيته وشعره بالحناء اتباعا للسنة، عذب الحديث، رخيم الصوت، يشع البريق من عينيه بصفاء الود لمن يراه، على الرغم مما يثقل جفنيه من آثار السهر، وطول التأمل وإعمال الفكر، وكثرة التجوال بروحه وجسده بحثا عن حقائق الشريعة!!.. في ثياب خشنة نظيفة، متكئا على عصا غليظة، كأنه حاج ورع أو جواب آفاق..!
وفي الحق أن المصريين لم يخطئوا في إطلاق اسم قاضي الشريعة على الإمام الشافعي، فما كاد يطأ أرض مصر حتى بحث عن قبر الإمام الليث ابن سعد فوقف عليه مستعبرا.. ثم بحث عن آراء الليث وفقهه. فوجد المتعصبين من أعداء الليث وحساده، قد أخفوا كل كتبه تحت التراب أو أحرقوها..! وظل يبحث عن كتاب «مسائل الفقه» الذي كتبه الليث بيده، وكتاب التاريخ وكتابه في التفسير والحديث، وكتبه عن منابع النيل، وتاريخ مصر قبل الإسلام، بما حوت من أساطير وروايات تصور تاريخ الفكر المصري ومقومات شخصية أهل مصر.. فلم يعثر الشافعي على شيء من ذلك كله إلا بعض مسائل وآراء واجتهادات حفظها بعض تلاميذ الإمام الليث، وكان الشافعي قد لقي أحدهم في المدينة، وأحدهم في اليمن فتلقى عنهما بعض فقه الليث..
وأدرك المصريون أن هذا الإمام الجديد، سيحيي علم إمامهم الراحل الليث بن سعد الذي كادت آثاره أن تندثر ولما يمض على رحيله غير ثلاثة أو أربعة أعوام!!
وكان أكثر ما أعجب المصريين من إمامهم الليث حرصه على الشريعة، بحيث يتحرى في كل فتوى أن يقيس على نص قرآني، أو على سنة ثابتة، أو إجماع صحيح إن لم يجد ما يطلب في النصوص أو الإجماع، بحيث يسد الطريق على من يستنبطون الحكم بما يستحسنون أ بما يرونه محققا للمصلحة.. ويشرعون بهذا السلوك في الفتيا للولاة أو القضاة الظالمين أن يحكموا بالهوى..!!
هاهو ذا إذن إمام جديد يريد أن يحيي آثار الليث، وأن يلزم أصول الشريعة فيما يستنبط من أحكام، وهو يضيف الى فقه الليث اجتهاده الخاص، ويجادل عن الشريعة ويعلن للناس منذ اتخذ مجلسه للفتيا في جامع عمرو بالفسطاط أن القرآن فيه حكم كل شيء، وأن السنة تفصيل وبيان لما في القرآن بكل أوجه البيان، فعلى من أراد أن يكون عليما بالقرآن والسنة، وقضايا الصحابة وإجماعهم، فقيها باللغة العربية، وبأسرار البلاغة فيها، وبقواعد نحوها. ولن يبلغ هذا العلم حتى يكون قد حفظ الشعر الذي قاله العرب قبل الإسلام، وبالعربية التي كان يتحدث بها البدو وقت نزول القرآن.
فقد اعترف ابن عباس وهو عليم بالتفسير أنه لم يفهم قول الله تعالى: «فاطر السموات والأرض» حتى سمع بدوية تقول عن وليدها: «أنا فطرته»، تعني أنشأته وأوجدته.. فعلم أن كلمة فاطر بمعنى: منشئ أي خالق. فإذا اجتمع لرجل علم ذلك كله من قرآن وسنة وأقوال الصحابة، وفقه اللغة العربية حق له أن يجتهد!
والإجتهاد هو بذل الجهد، ففيه مشقة.. فإذا اجتهد العالم ليجد حكما أو ليصدر فتوى فليبحث أول الأمر في الكتاب والسنة، لأن الكتاب ـ وما السنة إلا بيان له ـ فيه كل الأوامر والنواهي، وما كان ربك ليترك الناس سدى بلا أمر ولا نهي.. فإن اجتهد العالم فهو عالم وفقيه.. فإن لم يجد الفقهي في الكتاب والسنة أو إجماع الصحابة حكما ينطبق على الأمر الذي يعرض له فعليه بالقياس.. لا قياس مع نص قياس إلا على نص.. ولا سبيل غير القياس إلى استنباط الأحكام التي تواجه الأمور المستحدثة التي لا نص على حكمها..
بهذا النظر جاء الإمام الشافعي الى مصر..
على أن الحياة في مصر طالعته بفقه جديد مما أثر على الليث ابن سعد... واجهته بكثير من الأمور المستحدثة التي لم يواجه مثلها من قبل..
وكان الشافعي حين قدم الى مصر وأقام بها حتى توفي فيها سنة 204 هـ، كان عالما ويحفظ القرآن والحديث ويعرف إجماع الصحابة ويتقن اللغة العربية وعلومها وآدابها.. كان كل أولئك، وكان بعد رجلا عرك الحياة وبلاها، وتجول في كثير من البلاد، واجتهد وأصبح صاحب مذهب، ونشأت له من خلال هذه التجارب كلها مودات وعداوات.. كثير الأسفار ينتقل هنا وهناك ليتعلم هو ويعلم الآخرين..
عرف الحياة منذ ولد جهادا متصلا في سبيل العيش وفي سبيل العلم..
ومن الحق أنه قدم مصر وله مذهب في الفقه ولكنه لم يكد يقيم في مصر، حتى غير كثيرا من آرائه، وأعاد كتابة كتبه.
فقد عرف في مصر ما لم يكن قد عرفه من قبل.. صحت عنده أحاديث كثيرة سمعها لأول مرة في مصر، نقلا عن الإمام الليث.
وبهره ما استطاع أن يصل اليه وأن يتعلمه من فقه الليث وآرائه وفتاواه.
وعرف آراء جديدة للإمام علي بن أبي طالب لم يتح له الإطلاع عليها من قبل...
ثم أنه عرف حضارة وتقاليد وأعرافا كلها جديدة عليه، ليس كمثلها شيء مما رأى في مكة أو المدينة أو اليمن أو سوريا أو العراق..
عاين انطلاقا في الفكر مع التمسك بروح الشريعة، تحررا في الرأي مع التزام مقاصد الشارع، ورأى أن مالكا بن أنس يخالفه بعض الفقهاء في مصر متأثرين بإمامهم الليث بن سعد، وما كان يعرف أن الإمام مالكا ابن أنس يخالفه أحد من قبل إلا في ست عشرة مسألة. خالفه فيها أهل الرأي بالعراق..
وناظر بعض تلاميذ الليث في خلاف إمامهم مع أستاذه مالك وأقنعه رأي الليث، وهاله ما رأى وسمع من تعصب بعض أتباع مالك في مصر وما يليها من المغرب كله والأندلس للإمام مالك، حتى لقد كان الناس في المغرب والأندلس يتبركون بملابس للإمام مالك أخذها منه أحد تلاميذه، فكانوا إذا دهمهم الجفاف وتأخر المطر، وصلوا صلاة الإستسقاء اتجهوا الى قلنسوة للإمام مالك يستسقون بها..!
ورأى الشافعي في مصر أتباع الإمام الليث يسخرون بهذا كله، ويتهمون صانعيه بإحياء الوثنية، وبالشرك بالله تعالى..
وسمع سخرية أتباع الإمام الليث من أتباع الإمام مالك حين يتناظرن.. إذ يروي أتباع الإمام الليث الحديث الشريف عن سنده الى أن يقولون قال رسل الله(صلى الله عليه)، فيرد أتباع الإمام مالك «قال أستاذنا وشيخنا الإمام مالك».. فيقول أتباع مالك: «نقول لكم قال الرسول عليه الصلاة والسلام فتقولون بإزائه قال الإمام مالك؟ أجعلتموه في مقام الرسول المصطفى (صلى الله عليه)؟.. لو كان الإمام مالك رضي الله عنه حيا لأفتى بأنكم ارتددتم عن الإسلام».
كان المصريون يجلون الإمام مالكا بن أنس، على الرغم من أنهم يأخذون بآراء إمامهم الليث بن سعد في خلافه مع الإمام مالك.. ولكنهم كانوا يضيقون بتعصب بعض أتباعه، ويعتبرون تعصبهم وشططهم خروجا على منهج الإمام مالك، وإساءة لذكراه، وهو الذي عاش يحمل في كل سيرته تقاليد السماحة الإسلامية وتراث الحكمة والموعظة الحسنة..
رأى الشافعي عناصر جديدة من الرأي والفكر والحضارة في مصر، واطلع على ما أنتجته المدرسة المصرية في الفقه بزعامة الإمام الليث سيد الفقهاء، فبدأ يعيد النظر في كثير من آرائه.. بصفة خاصة تلك التي اتبع فيها أستاذه مالك.. أو التي تأثر فيها فقه أهل المدينة وإمامهم مالك.. فألف كتابا فيما اختلف فيه مع مالك.. ولكنه استحيا أن يصدره. وما زال قريب العهد من الجلوس الى مالك مجلس التلميذ.. وأبقى الكتاب ينظر فيه يعدل عاما بأسره ثم أصدره. وعندما عوتب في ذلك قال: «إن أرسطو تعلم الحكمة من أفلاطون ثم خالفه قائلا إن أفلاطون صديقي والحق صديق فإذا تنازعنا فالحق أولى بالصداقة.
بهر الشافعي إذن بما شاهد في مصر من مظاهر الحضارة والتقدم والتزاوج الفكري بين الإسلام معطيات الحضارات التي تشكل الوجدان المصري: الحضارات القبطية والمصرية القديمة واليونانية. وهو ما لم يعرفه من قبل.. ثم الفهم العميق لروح الشريعة الإسلامية، وتطويع الأحكام لكل مقتضيات الحاجة الإنسانية المشروعة، مما يقيم المجتمع الفاضل الذي هو هدف الشريعة ومقصدها الأسمى..
حتى إذا انتهى الإمام الشافعي من إعادة صياغة كتبه تصحيح آرائه على أساس العنصر الجديد الذي تدخل في صياغة وجدانه عقله. أعلن للناس أن آرائه ليست إلا التي كتبها في مصر. أما كتبه السابقة فلا يحق لأحد أن ينسبها إليه.. وكتب بذلك إلى أقرب أصحابه وتلاميذه إليه أحمد بن حنبل فكان الإمام أحمد يقول: «خذوا عن أستاذنا الشافعي ما كتبه في مصر».
ولكن الشافعي لم يصل الى ما وصل اليه إلا بعد مشقات جسام عبر رحلة عمر كابد فيها الاهوال، حتى لقد رأى الموت رأي العين ذات مرة.
وقضى عمره كله في العيش الضنك على الرغم من ارتفاع همته ولقد عبر عن ذلك بقوله:
ذو همة يبلى بعيش ضيق
وأحق خلق الله بالهم امرؤ
ولد الشافعي سنة 150 هـ في غزة وهي السنة التي توفي فيها أبو حنيفة إمام أهل الرأي في العراق وفي هذا تمازح أحد الفقهاء من المذهب الحنفي وفقيه من المذهب الشافعي، قال الحنفي: «إمامكم كان مخفيا حتى ذهب إمامنا» فقال صاحبه: «نحن الشافعية نقول لما ظهر إمامنا هرب إمامكم».
ولد في عصر كثر فيه الجدل بين أهل الحديث وأهل الرأي. وتعصب كل فريق ضد الآخر، فكان من أهل الحديث من يرفض الرأي إطلاقا، ومن أهل الرأي من لا يتقن حفظ عدد صالح من الأحاديث..
وهو عصر ميز بين العالم والفقيه، أبين العلم والفقه: فالعلم هو حفظ القرآن والأحاديث وآثار الصحابة.. أما الفقه فهو إعمال الفكر والإجتهاد والتأمل شحذ العقل لاستنباط حكم شرعي فيما لا نص فيه.. وقد يجمع الرجل الواحد بين العلم الفقه وهؤلاء هم الأئمة العظام والفقه.
وقد روي عن أحد التابعين قوله: «ما رأيت أفقه من ابن عمر، ولا أعلم من أبن عباس».
وكان أهل الحديث يقفون عند النصوص لا يعدونها فإن لم يجدوا حكما فيها، لا يفتون.
وأما أهل الرأي فقد نظروا في عطل الاحكام، واستنبطوا من النصوص احكاما لما لم يرد نص على حكمه، اعمالا للعقل، والحاقا للامور بأشباهها ونظائرها اذا توفرت علة الحكم.
وقد بلغ من وقوف بعض اهل الحديث عند ظاهر النص حدا اثار بهم سخرية أهل الرأي، وبلغ من انطلاق اهل الرأي في استنباط الاحكام حدا جعل أهل الحديث يتهمونهم!!
وقد سأل احد اهل الرأي واحدا من اهل الحديث في أمر طفل وطفلة رضعا معا من ضرع شاة ثم كبرا، أيجوز لهما الزواج.
فقال صاحب الحديث: تثبت بينهما حرمة الرضا. فسأله صاحب الرأي: بأي نص. فقال صاحب الحديث بقوله «ص»: كل صبيين اجتمعا على ثدي واحد حرم احدهما على الآخر. فقال صاحب الرأي ضاحكا: قال الرسول «ص»: اجتمعا على ثدي واحد لا على ضرع واحد. انما يثبت الحديث بين الآدميين لا بين شاة وآدمي. فلو أنك أعملت العقل والرأي ما أخطأت. وما سويت بين المرأة والنعجة!
وكان أصحاب الرأي يتهمون اصحاب الحديث «بالعجز عن النظر، وبأنه كلما أورد عليهما احد من اصحاب الرأي سؤالا أو اشكالا بقوا متحيرين» ومن اجل ذلك فهم ليسوا أنصارا للسنة، بل أن اهل الرأي اكثر انتصارا للسنة واتباعا لها من هؤلاء الذين يزعمون أنهم أهل السنة!
أما اهل الحديث فاتهموا أهل الرأي بأنهم يأخذون بالظن ..
على ان مالكا بن أنس امام اهل الحديث لم يكن يرى هذا الرأي في الامام أبي حنيفة امام اهل الرأي فقد قال فيه: اجتمعت مع أبي حنيفة وجلسنا اوقاتا وكلمته في مسائل كثير ة فما رأيت رجلا افقه منه ولا أغوص منه على معنى وحجة».
ولكن اتباع الامامين كان فيهم من يتعصب لشيخه، ومن هؤلاء الاتباع من كان يشغب على الآخر.. حتى لقد عيروا أبا حنيفة ببعض حيله، وان كان مالك ليضحك كلما ذكرها ذلك ان الموالي ـ وهم المسلمون من أهل البلاد المفتوحة ـ قدموا الكوفة وكان لرجل منهم امرأة فائقة الجمال، فتعلق بها رجل كوفي، وادعى انها زوجته. وادعت المرأة ايضا ذلك .. وعجز المولى زوج المرأة عن البينة فعرضت القضية على أبي حنيفة .. وكان من رأي اهل الحديث أن المرأة للكوفي ولكن ابا حنيفة لم يطمئن الى الاخذ بها الظاهر كما صنع أهل الحديث.
ورأى ان يحقق الامر بنفسه .. وشك في ادعاء الزوجة والكوفي، فأخذ جماعة من الناس ومعهم بعض اهل الحديث وذهبوا الى حيث كان ينزل الموالي فنبحت كلابهم وهمت ان تهاجم كما تفعل مع الغرباء .. ثم عاد ابو حنيفة واخذ الزوجة ومعها شهود من اهل الحديث وأمر الزوجة ان تدخل وحدها الى منازل الموالي .. فلما قربت بصبص الكلاب حولها كما تفعل بأصحابها فقال أبو حنيفة : «ظهر الحق» فانقادت المرأة للحق واعترفت أنها كذبت .. وعادت الى زوجها . وسخر أهل الرأي من اهل الحديث في هذه القضية ...
على هذا النحو كان الخلاف بين أهل الحديث وأهل الرأي .. حتى ان الشافعي عندما بدأ يطلب العلم في مجالس اهل الحديث جلس بعد الدرس في بيت صاحب له يتناشدان الشعر فأتى الشافعي على شعر الهذليين وقال لصاحبه: «لا تعلم بهذا أحدا من اهل الحديث فانهم لا يحتملون هذا » ذلك أن أهل الحديث كان فيهم من يغلو فيرى في حفظ الشعر ودراسة الادب علما غير نافع .. فالعلم النافع عند هذا النفر هو القرآن والحديث وآثار الصحابة فحسب ..
اخذ الشافعي يناطح هذا كله .. ويقاوم التعصب للحديث وللرأي جميعا .. ليكون هدف المناظرة هو الوصول الى حقائق الشريعة، لا غلبة المتناظر على خصمه ..
ولكنه على الرغم من ذلك انحاز الى اهل الحديث أول الامر، وخاصم فيهم أهل الرأي، حتى اذا استقل به المقام في مصر تلك السنوات الاخيرة من حياته القصيرة (150 - 204) تعلم أن الامام الليث كان قد اهتدى الى مذهب وسط بين أهل الحديث وأهل الرأي، معتمدا على استيعاب يقظ لروح الشريعة ومقاصدها، فأعجب بأصول مذهب الليث وفروعه وزاد عليه واضاف ونقح في خمس سنوات عاشها في مصر كل ما كان قد كتبه طيلة حياته من قبل. وعرف ما كتبه في مصر باسم «المذهب الجديد».
والشافعي هو محمد بن ادريس بن العباس بن شافع «وقد نسب الى هذا الجد» بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن المطلب بن عبد مناف ..
والمطلب هو شقيق هاشم بن عبدمناف .. وهاشم هو ابو عبدالمطلب جد النبي «ص» وكان هاشم يقود رحلة الشتاء الى الشام بقافلة قريش في الجاهلية ومات ودفن بغزة.
اما والدة الشافعي فهي حفيدة اخت السيدة فاطمة ام الامام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
وكان الشافعي يقول «علي بن أبي طالب ابن عمي وابن خالتي».
فهو قرشي الام والام وكان أبوه فقيرا خرج من مكة يلتمس سعة العيش في المدينة. ولكنه لم يجد ما يريد فخرج بأهله الى غزة ومات بها بعد مولد ابن محمد بنحو عامين.
ولم تطق الام المقام في غزة بعد وفاة زوجها فحملت وليدها محمدا الى عسقلان وهو ابن عامين، وكان يرابط بها جيش من المسلمين، و كانت عسقلان تسمى اذ ذاك «عروس الشام» وخيرها دافق والعيش بها رائق.
غير أن العيش لم يرق للارملة الصغيرة في عسقلان، فحملت ابنها محمدا الى مكة موطنها وموطن ابائه واجداده، لعيش في قومه قريش، ولينال نصيبه من المال وهو سهم ذوي القربى ولكن حظه من هذا المال كان ضئيلا لم يسمح له ولأمه الا بحياة خشنة، عرف خلالها الحرمان منذ نعومة اظفاره.
وعندما شب الطفل الحقته امه بمكتب في مكة. ولكنها لم تجد أجر المعلم .. «فكان المعلم يقصر في تعليم الصبي الا ان المعلم كلما علما صبيا شيئا كان الشافعي يتلقف ذلك الكلام. ثم اذا قام المعلم من مكانه أخذ الشافعي يعلم الصبيان تلك الاشياء فنظر المعلم فرأى الشافعي يكفيه من أمر الصبيان أكثر من الاجرة التي يطمع بها منه فترك طلب الاجرة واستمرت هذه الاحوال حتى تعلم الشافعي القرآن كله وهو ابن سبع سنوات».
ثم وجهته امه الى اتقان تلاوة القرآن وتجويده وتفسيره على شيوخ التفسير والترتيل والتجويد في المسجد الحرام .. حتى اذا بلغ الثالثة عشرة كان قد أتقن القرآن حفظا وترتيلا وادراكا لما يقرأ بقدر ما يتيحه عمره.
وكان عذب الصوت .. في ترتيله خشوع وايقاع حزين تخالجه الرهبة من خشية الله .. فكان حين يقرأ القرآن في المسجد الحرام يتساقط الناس بين يديه ويكثر عجيجهم بالبكاء من حسن صوته فاذا رأى ذلك امسك.
بعد ذلك اتجه الى حفظ الحديث ولزم حلقات شيوخ التفسير وأهل الحديث وكان الورق غالي الثمن فكان يلتقط العظام العريضة فيكتب عليها أو يذهب الى الديوان فيجمع الاوراق المهملة التي القي بها فيكتب على ظهرها ..
كان يجد مشقة في الحصول على ورق الكتابة، فاعتمد على الحفظ وهكذا تكونت له حافظة قوية .. حتى لقد كان يحفظ كل ما يلقى عليه.
لاحظ أثناء اقامته في مكة أن لغة قريش قد دخلها الغريب من كلمات وتعبيرات المسلمين الجدد من الموالي غير العرب . فلم يعد لسانها هو اللسان العربي المبين...!
ثم انه في تأمله للقرآن والاحاديث شعر بأنه في حاجة الى زاد لغوي كبير والى تفهم أعمق لمعاني الكلمات واسرار التراكيب .. وكان يشهد دروس الليث بن سعد امام مصر وهو حينذاك فقيه كبير يتحلق حوله الطلاب في المسجد الحرام كلما جاء حاجا او معتمرا ..
في احدى حلقات الليث الى جوار مقام ابراهيم نصح مستمعيه أن يتقنوا اللغة واسرار بلاغتها وفنون آدابها .. وان يحفظوا الشعر الذي سبق نزول القرآن الكريم وعاصره ليحسنوا فهم معاني الكتاب المنزل والاحاديث ..
ولكن نصح الامام الليث مستمعيه ان يخرجوا الى البادية فيتعلموا كلام «هذيل» ويحفظوا شعرهم .. فهذيل هم افصح العرب وشعر الهذليين عامر بكنوز اللغة.
ولقد حفظ الليث نفسه اشعار الهذليين .. واستشهد بها في تفسير بعض كلمات القرآن. كما فعل ابن عباس من قبل وهو شيخ المفسرين.
وخرج افتى محمد بن ادريس الشافعي الى بادية قريبة من مكة وعاش في مضارب خيامهم يحفظ عنهم اشعارهم وتراكيبهم اللغوية يرحل برحيلهم وينزل بنزولهم ويتعلم منهم.
ثم رجع الى مكة ينشد اشعارهم ويذكر عنهم الاخبار .. كما قال هو نفسه حتى ان الاصمعي وهو شيخ اللغويين قال وهو في اوجه شهرته:
«صححت اشعار الهذليين على فتى من قريش يقال له محمد بن ادريس ...».
لزم الشافعي هذيلا نحو عشر سنين، عكف فيها على دراسة اللغة وآدابها . وحفظ الشعر وتعلم منهم الرماية والفروسية وبرع فيهما، حتى لقد كان يأخذ بأذن الفرس وهو يجرى فيثب عليه في براعة وتمكن!
واتقن الرمي حتى قال عندما تقدم به العمر : «كانت همتي في شيئين: في الرمي والعلم فصرت في الرمي بحيث اصيب عشرة من عشرة ـ ثم سكت عن العلم، فقال احد الحاضرين: أنت والله في العمل أكثر منك في الرمي».
عاد من البادية اذن فارسا متفوقا في البداية في الرماية، ، ناصع البيان، في صدره الى جوار القرآن والحديث، ثروة ضخمة من الشعر والآداب والاخبار والفقه واللغة.
وعاد يجلس الى حلقات شيوخه في المسجد الحرام.
جلس الى اهل الحديث والمفسرين من اتباع ابن عباس .. والى العلماء والفقهاء من اتباع الامام جعفر الصادق .. وكانوا جميعا ينهلون من علم الامام علي بن أبي طالب.
وعلى الرغم من أنه قد جاوز العشرين، وأصبح يملك القدرة على اختيار شيوخه في المسجد الحرام فقد تعود ان يسأل أمه النصيحة فتشير عليه بأسماء الشيوخ الذين ينبغي له ان يلزمهم .. وكانت امه حافظة للقرآن والحديث بصيرة بأحكام الشريعة. ولقد ردت قاضي مكة حين استدعاها للشهادة هي وامرأة اخرى وأراد ان يفرق بينهما، فطلبت ان تشهد الواحدة امام الاخرى. وذكرت بالآية الكريمة: (أن تضل احداهما فتذكر احداهما الاخرى).
وكان الشافعي بارا بوالدته .. مستمعا لنصائحها وقد وجهته الى فقه الامام علي بن أبي طالب، ونصحته ان يلتمسه من تلاميذ ابن عباس وتلاميذ الامام جعفر الصادق، وكان مقاتل بن سليمان هو أعلاهم شأنا وابصرهم بالقرآن وتفسيره وبالحديث والفقه ..
وقد توقف الشافعي وهو ينظر في تفسير القرآن عند آية (وقد خاب من دساها)..
ولم يعرف معنى كلمة دساها، فلم تكن قد عرضت له من قبل. ولم يجد الكلمة فيما تعلم من لغة العرب. وخرج الى ظاهر مكة يسأل فيها بطنا من هذيل، وهم افصح العرب فلم يجد عندهم جوابا وطاف على شيوخ الحلقات من أهل الاثر ومفسري القرآن، فلم يظفر بجواب شاف .. وهمه الامر وغمه، فلاذ بأمه يسألها النصيحة فوجهته الى مقاتل بن سليمان تلميذ الامام الصادق . وذهب الشافعي الى حلقة مقاتل بن سليمان فقال له مقاتل: دساها من لغة السودان «ومعناها أغواها»...
اكتمل للشافعي علم حسن بالقرآن والحديث وآثار الصحابة، وثراء لغوي يفتح مغاليق المعاني، وذوق أدبي يتيح له أن يدرك لطائف البلاغة واسرار البيان.
وقال له أحد شيوخه: «آن لك أن تفتي».
ولكن الشافعي تهيب الفتيا، فما كان إلا شابا صغيرا في سن أبناء المفتين من أصحاب الحلقات في المسجد الحرام... وهو بعد لم يحصل على كل ما يريد من فقه المدينة، حيث يشع علم الإمام مالك، ولا من فقه العراق حيث ما زال صدى جليل من آراء الإمام الراحل أبي حنيفة يدي في جنبات المسجد الكبير بالكوفة، وحلقات بغداد، وحيث ما زال تلاميذه أب يوسف ومحمد ابن الحسن وغيرهما يجادلون عن إمامهم ويضيفون الى تراثه الجدلي.
ثم إن الفتى لم يعرف كما ينبغي فقه الأوزاعي بالشام، ولا فقه الليث بمصر.. هذا الفقه الذي اتسم بالتوفيق بين أهل الرأي وأهل الحديث، والذي يحترم الحزبين جميعا، يتميز بعمق الإدراك لروح الشريعة ومقاصد الشارع، ويواجه في يسر معجز كل ما يطرحه العصر من مسائل وقضايا.
وقرر أن يرحل في طلب الفقه من كل مدارسه، كما رحل من قبل يلتمس الفصحى من خير منابعها.
وأستأذن أمه أن يرحل الى المدينة المنورة ليدرس على الإمام مالك فأذنت له..
كان الفتى إذ ذاك في نحو العشرين، خلبه مالك حين جاء الى المسجد الحرام فألقى بعض الدروس، وأخذته هيبة مالك وحسن معرفته بالحديث.
وعرف عن مالك أنه على الرغم من سماحته، صارم في عمله، لا يبيح وقته للناس، ولا يستقبل من يطرق باب داره خلال ساعات العمل أو الراحة..
ولكن الشافعي لا يريد أن يكتفي بحضور دروس مالك في المسجد النبوي، وهي مباحة للعامة، بل يريد أن يلزمه ليتلقى منه علمه، وليتاح له أن يسأله ويحاوره...
ومالك لا يأذن بالحوار في دروسه ويطرد من حلقته كل من خالف تقاليد الدرس..!!
ما السبيل إلى الإمام مالك إذن!؟
قرر الشافعي أن يحسن إعداد نفسه للقاء الإمام مالك... فبحث عن كتابه «الموطأ» الذي أخرجه مالك منذ حين واضعا فيه كل فقهه وكل ما صح عنده من الأحاديث النبوية الشريفة.
ووجد الشافع نسخا من الكتاب لكنها غالية الثمن، وهو رقيق الحال.. فاستعار الكتاب من أحد شيوخه في مكة عكف عليه النهار والليل، حتى حفظ الكتاب بحافظته المدربة التي تعود الاعتماد عليها منذ كان لا يجد ثمن الورق، ومنذ كان يدرس بالمكتب وهو صبي.
وزاده حفظ كتاب «الموطأ» شوقا الى لقاء الإمام مالك والى صحبته..!
وجهزته أمه للسفر الى المدينة وباعت في ذلك بعض أثاث الدار..
إنها لهجرة في سبيل العلم فهي في سبيل الله.
ورأت أمه أن تسهل له لقاء مالك، فوسطت بعض أقاربها الى والي مكة، ليعطي ولدها كتابا الى والي المدينة، عسى أن يتوسط للشافعي فيلقى مالكا ويلزمه.
ويحكي الشافعي عن هذه التجربة بعد أن أخذ كتاب توصية من والي مكة الى والي المدينة والى الإمام مالك.
قال الشافعي: «فقدمت المدينة، فأبلغت الكتاب الى الوالي فلما قرأه قال: يا فتى إن مشيي من جوف مكة الى جوف المدينة حافيا راجلا أهون علي من المشي الى باب مالك بن أنس. فلست أرى الذل حتى أقف على بابه. فقلت: أصلح الله الأمير. إن رأى الأمير يوجه اليه ليحضر. فقال: هيهات ليت أني لو ركبت أنا ومن معي، وأصابنا من تراب العقيق نلنا بعض حاجتنا..! فواعدته العصر، وركبنا جميعا فوالله لكان كما قال. لقد أصابنا من تراب العقيق، (والعقيق حي بالمدينة يسكنه مالك) فتقدم رجل منا فقرع الباب فخرجت إلينا جارية سوداء فقال لها الأمير: قولي لمولاك إني بالباب، فدخلت فأبطأت. ثم خرجت فقالت: إن مولاي يقرئك السلام ويقول إن كانت لديك مسألة فارفعها في رقعة يخرج اليك الجواب. وإن كان للحديث فقد عرفت يوم المجلس فانصرف. فقال لها: قولي له إن معي كتاب والي مكة اليه في حاجة مهمة. فدخلت وخرجت وفي يدها كرسي، فوضعته ثم إذا بمالك قد خرج، عليه المهابة والوقار وهو شيخ طويل مسنون اللحية، فجلس وهو متطلس (يلبس الطليسان) فرفع إليه الوالي الكتاب. فبلغ الى هذا «إن هذا رجل يهمني أمره وحاله فتحدثه وتفعل وتصنع» فرمى الكتاب من يده ثم قال: سبحان الله، أو صار علم رسول الله(صلى الله عليه) يؤخذ بالرسائل؟! فرأيت الوالي قد تهيب أن يكلمه. فتقدمت وقلت: أصلحك الله، إني رجل مطلبي (من بني المطلب) وحدثته عن حالي وقصتي... فلما سمع كلامي نظر إلي، وكان لمالك فراسة فقال: ما اسمك: قلت محمد. فقال: «يا محمد إنه سيكون لك شأن وأي شأن. إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بالمعصية. إذا ما جاء الغد تجيء ويجيء ما يقرأ لك». فغدوت عليه ومعي (الموطأ) وابتدأت أن أقرأ ظاهرا (من الحافظة) والكتاب في يدي. فكلما تهيبت مالكا وأردت أن أقطع، أعجبه حسن قراءتي وإعرابي فيقل: «يا فتى زد»، حتى قرأته عليه في أيام يسيرة.»
ومنذ ذلك اللقاء عام 170 هـ لزم الشافعي مالكا حتى مات الإمام مالك عام 179هـ.
لم يتركه الشافعي إلا ليزور أمه بمكة، أو ليقوم برحلة الى إحدى عواصم العلم والفقه.. وكان يستأذن شيخه مالكا بن أنس فإذا أذن له جهزه بزاد ومال ودعا الله له.
وفي المدينة التقى الشافعي بمحمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة وشيخ أهل الرأي في العراق، والتقى ببعض تلاميذ جعفر الصادق، وتعلم منهم بعض فقه الإمام الصادق وأقضية الإمام علي كرم الله وجهه.. وتعلم من مذهب الإمام الصادق أن العقل هو أقوى أدوات الإستنباط حين لا يكون نص. العقل وحده هو أداة فهم النصوص لا الإتباع ولا التقليد!
وتعلم من تلاميذ الإمام الصادق رأي الإمام في حقيقة العلم.. فالعلم ليس حفظ القرآن والحديث ومعرفة الآثار فحسب، ولكنه يشمل كل العلوم الطبيعية والرياضية التي تفسر ظواهر الكون وتكشف عن قدرة الخالق.
وهكذا قرر أن يتعلم تلك العلم الطبيعية والرياضية، فتعلم من خلال رحلاته علوم الكيمياء والطب والفيزياء. وتعلم الحساب والعلوم التي تجري عليها التجارة وعلم الفلك والتنجيم وهو فرع من العلوم الرياضية. وتعلم الفراسة، ومارسها.
وقد تعرف الى عدد من فقهاء مصر من تلاميذ الليث، وكان من عادتهم بعد الحج أن يزروا المدينة ليصلوا في الحرم النبي وليسمعوا لمالك. وقد أملى الشافعي «الموطأ» على بعضهم ونشأت بينه وبينهم صداقة انتفع بها عندما هاجر الى مصر ومنهم ابن عبد الحكم.
ولقد رأى يوما في الروضة الشريفة بين القبر والمنبر فتى جميل الوجه نظيف الثياب حسن الصلاة، فتوسم فيه خيرا، وحدثه فعرف أنه من الكوفة بالعراق فسأله: «من العالم لها والمتكلم في نص كتاب الله عز وجل، والمفتي بأخبار رسول الله(صلى الله عليه)» فقال: «محمد بن الحسن وابو يوسف صاحبا أبي حنيفة»: فقال الشافعي: «ومتى عزمتم تظعنون؟» فقال الشاب: «غداة عند انفجار الفجر».
وذهب الشافعي الى شيخه ليستأذنه أن يرحل في طلب العلم، فقال له شيخه مالك: «العلم فائدة يرجع منها الى عائدة. ألم تعلم بأن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يطلب؟».
فلما كان السحر وانفجر الفجر، سار مالك مودعا تلميذه الشافعي عند محطة القوافل بالبقيع خارج المدينة.
وصاح مالك يسأل عمن يؤجر راحلة الى الكوفة، فقال له تلميذه الشافعي: «لم تكتري لي راحلة ولا شيء معك ولا شيء معي؟» فقال مالك له: «لما انصرفت عني البارحة بعد صلاة العشاء الآخرة، قرع علي قارع الباب، فخرجت اليه، فسألني قبول هدية فقبلتها فدفع إلي صرة فيها مائة مثقال وقد أتيتك بنصفها وجعلت النصف لعيالي». وكان الطارق هو أحد تلاميذ الإمام الليث، حمله الليث هذه الهدية لصديقه الإمام مالك وكان الليث قد تعود أن يصل مالكا بالهدايا الثمينة والمال الكثير.
خرج الشافعي من المدينة ه شاب في الثانية العشرين، فوصل الكوفة بعد رحلة شاقة استغرقت أربعة وعشرون يوما، فاستضافه محمد ابن الحسن، وتحاورا في الفقه، وحضر حلقاته وحلقات زميله أبي يوسف.
وكتب الشافعي كل ما وجد عند صاحبي أبي حنيفة من فقه الإمام الأعظم، وعندما ترك الكوفة كان معه من الكتب حمل بعير.
ثم طاف في بلاد فارس، والتقى بشيوخها وجرت بينه وبينهم محاورات، ثم سافر الى ديار ربيعة مضر، وألم ببعض قبائل البدو، فاصاب ما عندهم من الفصحى.. وطاف في هذه الرحلة ببغداد وشمال العراق والأناضول وحران ثم سافر الى بلاد الشام وزار أمه بمكة..
وعاد بعد عامين الى المدينة وقد تزود بكثير من المعارف وكان يسأل طوال الرحلة عن أخبار شيخه مالك، فعرف أنه قد اتسعت أرزاقه وأصاب الغنى، فقد أجرى عليه الخليفة راتبا كبيرا، ووصله بالأموال والهدايا الثمينة..
وقصد الشافعي الحرم النبوي، وبينما هو يتهيأ للجلوس في المسجد في حلقة الإمام مالك، إذ فاح عطر في المسجد فتهامس من في المسجد إنه مالك.. ورأى مالكا يدخل المسجد وحوله جماعة يحملون ذيله حتى جلس على كرسيه الذي أعد له من قبل وعليه حشية ومن حوله الدفاتر. وبدأ مالك درسه فطرح مسألة على تلاميذه لفلم يجبه أحد. وظل يطرح مسائل وما من مجيب.!
فضاق صدر الشافعي، فنظر الى رجل بجانبه، وهمس إليه بالجاب.. واستمر مالك يسأل والرجل يجيب بما يهمس إليه الشافعي، فسأل مالك: من أين لك هذا العلم؟ فقال الرجل: «إن بجانبي شابا يقول لي الجواب». فاستدعى مالك ذلك الشاب فإذا هو الشافعي.. ولم يكن مالك قد استطاع أن يراه في زحام الحلقة، فرحب به مالك، وضمه الى صدره، ونزل عن كرسيه وقال له: «أتمم أنت هذا الباب».
رضي مالك عن شرح تلميذه الشافعي، وما انتهى الدرس، حتى أخذه الى بيته وأغدق عليه.
وحكى الشافعي لأستاذه عن كل ما تعلمه ولقيه في رحلته من طرائف.
حكى له عن تجربته مع علم الفراسة، وكان مالك ينصح تلميذه ألا ينصرف الى غير علوم الشريعة، وما يعين على الفقه بها وفهم النصوص استنباط الأحكام، والإهتمام باللغة وآدابها، وحفظ أخبار العرب وأيامهم، وحفظ الشعر الجاهلي، لأن كل أولك أدوات لفهم نصوص القرآن والأحاديث.. أما الفراسة ففي نفس مالك شيء منها..!
حكى الشافعي لشيخه مروحا عنه بعض ما صادفه مع علم الفراسة.. فقد مر في رحلته برجل يقف في فناء بيته، وهو رجل أزرق العينين بارز الجبين، وتأمل الشافعي ملامحه، وقال لنفسه: «إن علم الفراسة يدل على أن هذا الرجل لئيم خبيث». وكان الشافعي مجهدا يلتمس مكانا يستريح فيه. قال الشافعي: «سألت الرجل:هل من منزل؟» قال: «نعم». وأنزلني فما رأيت أكرم منه! وبعث إلي بعشاء طيب، وعلف لدابتي، وفراش ولحاف. فقلت : «أعلم الفراسة دل على غاية دناءة هذا الرجل وأنا لم أشاهد منه إلا خيرا. فهذا العلم باطل! ولما أصبحت قلت للغلام: أسرج الدابة، فلما أردت الخروج قلت للرجل: إذا قدمت مكة ومررت بذي طوى فاسأل عن منزل محمد ابن إدريس: فقال الرجل: أعبد أبيك أنا؟! أين ثمن الذي تكلفت لك البارحة؟! قلت: وما هو؟ قال: اشتريك له بدرهمين طعاما، وأدما بكذا وعطرا بكذا، وعلف دابتك بكذا، واللحاف بكذا.. قلت: يا غلام أعطه فهل بقي شيء؟ قال كراء المنزل فإني وسعت عليك وضيقت على نفسي.
فضحك مالك.. وأكمل الشافعي: فعظم اعتقادي في علم الفراسة.. ولم يجبه مالك بغير الضحكات.. وقلما كان يضحك!
***
عاد الشافعي من هذه الرحلة باحترام كبير للإمام أبي حنيفة النعمان فقد قرأه على صاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن، وأعجب بطريقته في الحوار والإستنباط، وبسعة أفقه، وروى عنه كثيرا من حيله، ودافع عنه.
وكانا في الحجاز يهاجمون أبا حنيفة ويتهمونه بأنه لا يحسن علم الحديث، فنافح عنه الشافعي ووضعه في مكانه، وعلمهم أن الناس «في الفقه عيال على أبي حنيفة»..
استقر الشافعي بالمدينة تلميذا للإمام مالك، ثم بدأت تستقيم له طريقة في الجدل، فهو يلقي بالحجة دون أن يرفع صوته، وقول لمجادله: «خذ مكاني وآخذ مكانك»... ويقول الرأي، والرأي المضاد، حتى ينتهي من هذا الأسلوب الجدلي الى الحقيقة.
وأخذ ينتصف لأهل الرأي من أهل الحديث، وينصف أهل الحديث من أهل الرأي، ويقاوم التعصب المذهبي..
عاش في ظل الإمام مالك ورعايته حتى مات الإمام مالك سنة 179هـ والشافعي في نحو التاسعة والعشرين.. وبكى الشافعي أستاذه الإمام مالك ابن أنس أحر بكاء وعكف على قراءة القرآن ملتمسا العزاء.. وشعر أنه أصبح غريبا في المدينة».
لم تطب له الحياة بعد بالمدينة بعد أن توفي شيخه..
وبدأ يبحث عن مكان يعمل فيه عملا يعيش منه.. وعاد الى أمه بمكة، مودعا المدينة من خلال الدمع.
وكان اولي اليمن قد أقبل الى الحجاز في ذلك الوقت، فتوسط بعض أقرباء الشافعي من القرشيين عند والي اليمن، فصحبه معه الى اليمن ووكل إليه عملا.
لم يكن عند أم الشافعي ما تساعد به ابنها ليتزود في سفره هذا، وليقيم في اليمن حتى يقبض راتبه، فرهنت دارا كانت لها بمكة، وسافرت معه.
ولقد غضب منه أحد شيوخه بمكة وعنفه لأنه يترك الفقه من أجل الوظيفة بقوله: «تجالسوننا وتسمعون منا، فإذا ظهر لأحدكم شيء دخل فيه؟».
وتولى الشافعي عملا مهما في نجران باليمن، وهناك عاود دراسة علوم الفراسة التي كانت مزدهرة باليمن، حتى تفوق فيها.
وجلس الى بعض شيوخ الشيعة باليمن فتلقى منهم، ولزم يحيى بن حسان تلميذ الليث بن سعد المصري وصاحبه، فأخذ عنه كل ما انتهى اليه من فقه الليث.
وقام الشافعي بعمله في نجران خير قيام، وأحبه الناس لعدله، لتمسكه بالشريعة، وإغلاقه باب المجاملة والملق.
ثم أنه وجد حاكم نجران يظلم الناس، فقاوم الحاكم ووقف في المسجد يحض الناس على مقاومته، وأخذ يضرب لهم الأمثال لما يجب أن تكون عليه سيرة الحاكم بالإمام علي بن أبي طالب وسيرته في الخلافة، فأثار عليه أعداء كثيرين من الذين رفض مجاملتهم.
ووشى حاكم نجران بالشافعي، درس عليه أنه أسس حزبا عليا يعد للثورة على الخليفة، يولي أحد أحفاد الإمام علي، بدلا من هارون الرشيد، وأنه يؤيد الحفيد في الثورة على الرشيد.
وكان العباسيون غلاظا على العلويين، يسفحون دماءهم بالظن. فقد كانوا يعرفون أن كثيرين يرون العلويين أحق منهم ومن الأمويين بالخلافة.
فزع الرشيد من قراءة كتاب والي نجران وخاصة من قوله عن الشافعي: «لا أمر لي معه ولا نهي، فهو يعمل بلسانه ما لا يقدر عليه المقاتل بسيفه».
وفي الحق أن الشافعي ما كان يخفي حبه لعلي وللطالبيين، فقد قيل له يوما: خالفت عليا بن أبي طالب رضي الله عنه فيما قلت». فقال لمناظره «أثبت لي هذا عن علي بن أبي طالب حتى أضع خدي في التراب وأقول قد أخطأت وأرجع عن قولي إلى قوله».
ووجد في اليمن كثيرا من الطالبيين، وحضر مجالس العلم معهم ولكنه كان يستمع ولا يتكلم فإذا سئل في ذلك قال: «لا أتكلم في مجلس يحضره أحدهم وهم أحق بالكلام مني ولهم الرياسة والفضل».
وهكذا شاع عنه حبه لبني علي، والطالبيين جميعا.
قيل له إنك لمتشيع تشايع عليا بن أبي طالب وتشايع بنيه من بعده ومنهم الثائر العلوي على الرشيد.. فقال: «يا قوم ألم يقل رسول الله(صلى الله عليه) لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين؟ قال عليه الصلاة السلام: إ، أوليائي من عترتي المتقون، فإذا كان واجبا علي أن أحب قرابتي ذوي رحمي إذا كانوا من المتقين، أليس من الدين أن أحب قرابة رسول الله (صلى الله عليه) إذا كانوا من المتقين؟».
وكتب والي نجران مرة أخرى الى هارون الرشيد أن الشافعي يؤلب عليه الأمة وأنه يقود تسعة من الثوار، يوالون الثائر العلوي الذي يطالب بالخلافة.
فأرسل الرشيد إلى والي نجران أن يرسل إليه الثوار مهانين في الأصفاد.
كانوا تسعة على رأسهم الشافعي، وضع الحديد في أرجلهم وأعناقهم تنفيذا لأمر الرشيد وسيقوا إليه مهانين...
كان الشافعي في الرابعة والثلاثين، فارسا، بطلا في رياضة الرمي، جلدا قوي البنيان، ولكنه جهد من الرحلة والإهانة.
وأدخلوهم على الرشيد والى جواره محمد بن الحسن فقاضي الدولة، الذي تلقى عنه الشافعي من قبل في الكوفة.
وكان الشافعي يدعو بهمهمة يسمعها الحاضرون: «الله لا لطيف أسألك اللطف فيما جرت به المقادير».
أنكر التسعة تهمة الثورة على الرشيد، ولكنه أمر بقطع رؤوسهم جميعا وسأله التاسع أن يمهله حتى يكتب لأمه فليس لها غيره، وأقسم أنه بريء من الإعداد للثورة على الرشيد، وكلنه الرشيد أمر بقطع رأسه.
كل هذا والشافعي في الأصفاد: الأغلال في عنقه الحديد في قدميه، رأسه بالرغم من كل ذلك شامخ.
ويا لله كان مجهدا.
وهاهو ذا يرى الموت رأي العين، ولكنه على الرغم من كل شيء ثابت الجنان، عميق الإيمان لا يملك إلا أن يدعو الله بالنجاة...
وعندما انتهى الرشيد من قتل الرجل التاسع، قال الشافعي: «السلام عليك يا أمير المؤمنين وبركاته... ولم يقل ورحمة الله.
فقال الرشيد: «وعليك السلام رحمة الله وبركاته ـ بدأت بسنة لم تؤمر بإقامتها، ورددنا عليك فريضة قامت بذاتها، ومن العجب أن تتكلم في مجلسي بغير أمري».
قال الشافعي: «إن الله تعالى قال في كتابه العزيز: (وعد الله الذين آمنوا منكم عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي أرتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) وهو الذي إذا وعد وفى، فقد مكنك في أرضه وأمنني بعد خفي حيث رددت علي السلام بقولك: وعليك رحمة الله. فقد شملتني رحمة الله بفضلك يا أمير المؤمنين».
فقال الرشيد: «وما عذرك من بعد أن ظهر أن صاحبك ـ يعني الثائر العلي ـ طغى علينا وبغى، واتبعه الأرذلون وكنت أنت الرئيس عليهم؟
فقال الشافعي: «أما وقد استنطقتني يا أمير المؤمنين فسأتكلم بالعدل والإنصاف. لكن الكلام مع ثقل الحديد صعب فإن جدت علي بفكه أفصحت عن نفسي. وإن كانت الأخرى فيدك العليا ويدي السفلى والله غني حميد».
فأمر الرشيد بفك الحديد عنه، وأجلسه.
وقال الشافعي: حاشا لله أن أكون ذلك الرجل، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا...) لقد أفك المبلغ فيما بلغك وإن لي حرمة الإسلام وذمة النسب وكفى بهما وسيلة.. وأنت أحق من أخذ بكتاب الله. أنت ابن عم رسل الله(صلى الله عليه) الذائد عن دينه المحامي عن ملته وأنا يا أمير المؤمنين لست بطالبي ولا علوي وإنما أدخلت في القوم بغيا علي. أنا رجل من بني المطلب بن عبد مناف.ع. أنا محمد بن إدريس بن عثمان بن شافع بن السائب..
فقاطعه الرشيد: «انت محمد بن إدريس»؟
فقال الشافعي: «ولي مع ذلك حظ مع العلم والفقه، والقاضي يعرف ذلك».
وكان محمد بن الحسن الذي استضاف الشافعي في الكوفة من قبل، قد أصبح قاضي الدولة، يجلس بجوار الرشيد. فقال له الرشيد: «ما ذكرك لي محمد بن الحسن» ثم التفت الى القاضي وسأله: يا محمد.. ما يقول هذا؟ أهو كما يقوله؟. فقال محمد بن الحسن: إن له من العلم شأنا كبيرا. وليس الذي رفع عليه من شأنه.
قال الرشيد: فخذه حتى أنظر في أمره.
وهكذا نجا الشافعي برأسه... وخرج الى بيت محمد بن الحسن ضيفا عليه..
وما زال محمد بن الحسن بالخليفة، حتى رضي عن الشافعي، واستدعاه ليمتحن علمه.
وعقد له مجلسا من أهل العلم والفقه الرياضيات والطبيعيات والكيمياء والطب.
قال الرشيد: «إنا نراعي حق قرابتك وعلمك فكيف علمك يا شافعي بكتاب الله عز وجل فإنه أولى الأشياء أن يبتدأ به؟».
فقال الشافعي: عن أي كتاب من كتب الله تسألني يا أمير المؤمنين فإن الله قد أنزل كتبا كثيرة؟.
فقال الرشيد: «أحسنت، لكن إنما أسألك عن كتاب الله تعالى المنزل على ابن عمي محمد رسول الله(صلى الله عليه).
قال الشافعي: «إن علم القرآن الكريم كثيرة فهل تسألني عن محكمه أو متشابهه أو عن تقديمه أ تأخيره أ» عن ناسخه أو منسوخه؟».
فأعجب الرشيد وأهل المجلس بجاب الشافعي.
ثم أخذ الرشيد يسأله عن سائر العلوم الطبيعية والرياضية من طب وكيمياء وفلك وتنجيم وفراسة..
فصفق الحاضرون إعجابا بحسن إجاباته، وأجازه الرشيد بخمسين ألف دينار، فقبلها الشافعي شاكرا، وخرج الى دار مضيفه، فلحق به أحد كبار رجال الدولة فقدم إليه صرة كبيرة بها دنانير ذهبية، فردها الشافعي قائلا: «لا أقبل عطاء ممن هو دوني، إنما أقبل العطاء من الخليفة وحده».
عاد الشافعي الى دار مضيفه محمد بن الحسن، يتأمل كل الذي دار بينه وبين الخليفة.
تعلم الشافعي من المحنة ألا يزج بنفسه في صراع سياسي.
وحاول محمد بن الحسن أن يجذبه ليكون في صف بني العباس، بدلا من بني علي، ولكنه آثر العافية. أقسم ألا يخوض غمرات الصراع السياسي، وألا يقبل منصبا في الدولة، فلن يهب نفسه لشيء بعد أعظم من العلم والفقه.. وأعترف أنه أخطأ حين قبل المنصب في اليمن، فزج بنفسه فيما ليس من شأنه.
وعكف على دراسة الطب والعلوم الطبيعية والرياضية يستكمل ما فاته منها، واهتم بالرياضة البدنية، وعاد يتدرب على الرمي وركوب الخيل، وقسم وقته بين هذا كله وبين دراساته الفقهية ودراسة ما ترجم من ثقافات المصريين القدماء القبط واليونان والفرس والهند.
واتخذ لنفسه دارا، وبدأ يدرس فقه العراق على يد محمد بن الحسن تلميذ الإمام أبي حنيفة.
لقد درس هذا الفقه مرة عندما كان في نحو العشرين، وهاهو ذا اليوم في نحو الخامسة والثلاثين وقد أكسبته السنون خبرة، وأنضجت الدراسة والمعاناة والتأملات عقله وقلبه، يعيد دراسة فقه أبي حنيفة وغيره من فقهاء العراق، ويبذل في كل أولئك من الجهد ما جعل الطبيب يحذره من السل.
صاحب الشافعي محمدا يتلقى منه فقه أهل الرأي، ولم يجد في ذلك غضاضة، فقد كان دائما مشقا الى المعرفة، والى المزيد من العلم، وكان يقول: «من حسب أنه علم فقد ضل وجهل».
ولزم الشافعي حلقة محمد بن الحسن في بغداد، وشاهد في الحلقة مخالفة لمالك، هجوما على آرائه، وكان يستحي أن يواجه محمدا في الحلقة بخلافه معه حول الإمام مالك، فما كايد محمد ينصرف عن حلقته، حتى يسرع الشافعي في مناظرة تلاميذ محمد، مدافعا عن فقه الإمام مالك، وعن أهل السنة، حتى لقد أطلقوا عليه في العراق إسم «ناصر السنة».
وعرف محمد أن الشافعي يناظر في غيابه، فأصر محمد على أن يناظره الشافعي.
وأبى الشافعي خجلا من محمد، ولكن محمدا ألح عليه فتناظرا في رأي الإمام مالك في الإكتفاء بشاهد واحد مع اليمين.
وظهر الشافعي على محمد في المناظرة.
ثم رجع الشافعي عن هذا الرأي عندما رحل الى مصر، وسمع من تلاميذ الإمام الليث حج شيخهم في التمسك بشاهدين.. فأخذ الشافعي برأي الليث...
أعجب محمد بالشافعي، وولع بمناظراته. وأعجب الشافعي بعلم محمد وبخلقه العلمي، فما كان يغضب إذا غلبه مناظر، وما أسرع ما كان يعترف لمناظره بالصواب إن اقتنع بحجته.
قال عنه الشافعي: «ما رأيت أحدا سئل في مسالة فيها نظر إلا رأيت الكراهة في وجهه إلا محمد بن الحسن».
وقد بلغ من حب محمد للشافعي، أنه على كان على موعد مع الخليفة، وإذ بالشافعي أمام دار محمد، فنزل محمد عن دابته، وقال لغلامه إذهب فاعتذر. وأخذ بيد الشافعي، فقال الشافعي: «لنا قلت غير هذا». فقال محمد: «لا».
ودخل به داره يتناظران ويتدارسان.
وعلى الرغم من أن محمدا من أهل الرأي من أتباع أبي حنيفة والشافعي من أتباع مالك شيخ أهل السنة ـ وبين أبي حنيفة ومالك خلاف كبير في الأصول الفروع ـ على الرغم من ذلك فإن محمدا كان يمدح لتلاميذه علم الشافعي ـ وسألوه لما يؤثر الشافعي عليهم الى الرغم من خلافهما فقال: لتأنيه وتثبته في السؤال والاستماع.
أثرت الحياة الفكرية في بغداد ثراء عظيما بمجارات الشافعي ومحمد بن الحسن، وكانت مثالا لأدب المناظرة وبراعة المتناظرين.
لكم كان الشافعي عفيف اللسان فه لا يسيء الى أحد لا يحب أن يذكر أحد بسوء أمامه.
قال له أحد أصحابه: فلان كذاب. فقال: «لا تقل (كذاب) بل قل حديثه غير صحيح».
كان يعظ أصحاب: «نزهوا أسماعكم عن استماع الخنا كما تنزهن ألسنتكم عن النطق به. فإن المستمع شريك القائل».
الشافعي الى الرغم من خلافه مع أبي حنيفة إمام الرأي كان إذا سئل عن مكانته بين فقهاء العراق ـ ومنهم أهل الحديث ـ قال: «سيدهم».
ولعل أروع محاوراته مع محمد بن الحسن، هي تلك التي دارت حول الغصب.
قال محمد للشافعي: «بلغنا أنك تخالفنا في مسائل الغصب». فقال الشافعي: «أصلحك الله إنما هو شيء أتكلم به في المنارة فإني أجلك عن المناظرة».
فسأله: «ما تقول في رجل غصب ساحة وبنى عليها بناء أنفق عليها ألف دينار، فجاء صاحب الساحة أقام شاهدين على أنها ملكه؟».
قال الشافعي: «أقول لصاحب الساحة ترضى أن تأخذ قيمتها؟ فإن رضي، وإلا قلعت البناء ودفعت ساحته إليه».
قال محمد: «فلما تقل في رجل غصب لوحا من خشب فأدخله في سفينته ووصلت السفينة الى لجة البحر، فأتى صاحب اللوح بشاهدين عدلين. أكنت تنزع اللوح من السفينة؟».
قال الشافعي: «لا».
قال محمد: «الله أكبر.. تركت قولك! ثم ما تقول في رجل غصب خيطا فجرحا بطنه فخاطوا بذلك الخيط تلك الجراحة. فجاء صاحب الخيط بشاهدين عدلين أن هذا الخيط مغصوب أكنت تنزع الخيط من بطنه؟».
قال الشافعي: «لا».
فقال محمد: «الله أكبر. تركت قولك».
فقال الشافعي: «أرأيت لو كان اللوح لوح نفسه (لوح صاحب السفينة) وأراد أن ينزع ذلك اللوح من السفينة حال كونهما في لجة البحر، أمباح له ذلك أم يحرم عليه؟».
قال محمد: «يحرم عليه.
فسأل الشافعي: «أرأيت لو جاء مالك الساحة أراد أن يهدم البناء أيحرم عليه ذلك أم يباح؟».
فأجاب محمد: «بل مباح».
قال الشافعي: «رحمك الله فكيف تقيس مباحا على محرم؟».
قال محمد: «فكيف يصنع بصاحب السفينة؟».
قال الشافعي: «آمره أن يسيرها الى أقرب الساحل، ثم أقول له إنزع اللوح وادفعه لصاحبه».
قال محمد: فقال النبي (صلى الله عليه): «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام».
قال الشافعي: «من ضره؟ هو ضر نفسه».
ثم سأل الشافعي: «ما تقل في رجل من الأشراف غصب جارية لرجل من الزنج في غاية الرذالة ثم أولدها عشرة كلهم قضاة سادات أشراف خطباء. فأتى صاحب الجارية بشاهدين عدلين أن هذه الجارية هي أم هؤلاء الأولاد مملوكة له ماذا تعمل؟».
قال محمد: «أحكم بأن أولئك الأولاد مماليك لذلك الرجل».
قال الشافعي: «أنشدك الله أي هذين أعظم ضررا أن تقلع البناء وترد الساحة لمالكها أو أن تحكم برق هؤلاء الأولاد؟».
فكست محمد بن الحسن، أما تلاميذه في الحلقة فمالوا الى رأي الشافعي.
***
أقام الشافعي في بغداد أعواما قلائل، استوعب فيها كل معطياتها من العلوم الطبيعية والدينية والرياضية والفقهية، وناظرا فقهاءها، وقرأ عليه كتاب الإمام مالك «الموطأ»، ودافع عن أهل الحديث، وأفاد من أهل الرأي.
وشعر آخر الأمر بالشوق الى مكة، وبأنه قد جمع من المعارف ما يؤهله لأن يجلس في المسجد الحرام مجلس المفتي والأستاذ وشيخ الحلقة.
وكانت مناظراته قد أعجبت الرشيد، فعرض عليه أن يوليه القضاء في أي مكان يريد، أو يجعله واليا على أي قطر يختاره.
ولكن الشافعي استأذن الرشيد في أن يتفرغ للعلم، أن يعد الى مكة ليعيش بين أهله من قريش وينشر ما تعلمه بين الناس.
وأذن له الرشيد.
عاد الشافعي الى ام القرى. فأتخذ له مجلسا للفتوى والتدريس في فناء بئر زمرم بجوار مقام إبراهيم خليل الله... وهو المجلس الذي اختاره من قبل في عصر الصحابة، عبد الله بن عباس مفسر القرآن الكريم، وأحد الذين حفظوا فقه الإمام علي بن أبي طالب وأقضيته، وكان نائبه على الحجاز عندما كان الإمام علي كرم الله وجهه أميرا للمؤمنين. يحكم الدولة الإسلامية الغنية من الكوفة في بيت هو من أدنى بيوت المسلمين.
عاد الشافعي من بغداد، لا يزال في أذنيه طنين من ضجيج المناظرات.. وقد أتاح له مقامه الطويل هناك أن يقترب من أهل الرأي، وأن يقرب أهل السنة من الرأي.. وأن يقنع بعض أهل الرأي بما عند أصحاب السنة..
وما زالت صور من محاوراته مع محمد بن الحسن تلح عليه..
في حواره مع محمد بن الحسن شيخ أهل الرأي في العراق بعد الإمام أبي حنيفة كان الشافعي يحاول أن يقرب المذهبين، وكان مفتونا بذلك الطريق الوسط الذي اختطه الإمام الليث بن سعد المصري بين أصحاب الرأي وأهل السنة.
إنه لا يستطيع اليوم أن ينحاز الى أي الحزبين.. فكيف استطاع الإمام الليث أن يجد هذا المنهج الوسط؟
كانت آراء الليث قد انتهت الى الشافعي منذ كان في اليمن، ولكنه كان في حاجة الى المزيد، ولا بد من السفر الى مصر ليتلقى العلم من إمامها الليث ابن سعد.
ولكن أهله في مكة أم القرى يستبقونه.
وإذن فليقم في مكة أم القرى حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، وحتى يؤذن له بالسفر الى مصر.
لقد أصبح الآن يملك من عطايا هارون الرشيد ما يسمح له بالتفرغ الكامل للعلم.
وأنفق نصف ما حمله من العراق على فقراء مكة، تنفيذا لوصية أمه: أن يتصدق على الفقراء بنصف ما معه كلما قدم الى أم القرى.
وهاهو ذا الآن إمام يجلس للتدريس والإفتاء. ثابتا، راسخا، مطمئن النفس.
وجعل محله في المسجد الحرام ساعات قليلة بعد الفجر. أما بقية النهار والليل فقد خصصه للتأمل، ولاستنباط منهج في الفقه.
لكم هو نادم لأنه أضاع وقته، إذ قبل وظيفة في اليمن فدخل فيما ليس من شأنه على حساب ما كان ينبغي أن يحصل من معرفة، ويشيع من علم، وعلى حساب طلب الحقيقة والحكمة.
على أن الوقت لم يفت بعد، وعليه أن يعوض ما فات.. إنه لعمل النهار والليل إذن..
إنه ليفسر القرآن ويستنبط دلالات آياته، ويدرس الناسخ والمنسوخ، ويدرس السنة ومكانها من القرآن، يتعرف على صحيح الأحاديث من باطلها، في عصر كثر فيه ضع الأحاديث إما مشايعة للفرق السياسية المتناحرة، وإما كيدا للإسلام، وإما غفلة من وضاع الحديث أو ناقليه حتى لقد صح عنده أن بعض الذين سمعوا الأحاديث كانوا يسمعن بعضها فيكتفون به، وقد يكون فيما لم يسمعه منها ما ينسخ ما نقلوه.
ثم أخذ يفكر في كيفية استخراج الأحكام إن لم يكن هناك نص في القرآن أو السنة وكيف يجتهد المجتهد وما ضوابط الرأي؟.
ووضع كتابا أسماه «الرسالة» فيه القاعد الكلية العامة لاستنباط الأحكام وأسس هذا الإستنباط، وأعاد النظر فيه فنقحه اختصر منه ولكنه لم يطمئن الى نشره، فرأى أن يتركه بعض الوقت عسى أن يعيد النظر فيه، بعد طرح ما فيه من أفكار على أهل حلقته، ومناظرة شيوخ مكة وعلماء الأمصار الذين يفدون الى البيت الحرام.
وطال مقامه بأم القرى هذه المرة، وطابت له فيها الحياة، وجذب إليه الكثيرين من رواد الحلقات الأخرى في المسجد الحرام.
وجلس إليه أحمد بن حنبل فأعجب به، فذهب أحمد الى صحابه الذين يلتمسون العلم في حلقات أخرى بالمسجد الحرام وأغراهم بالذهاب الى حلقة الشافعي. ويروي أحد أصحاب ابن حنبل: «قمت فأتى بي أحمد بن حنبل الى فناء زمزم، فإذا هناك رجل عليه ثياب بيض، تعلو وجهه السمرة، حسن السمت، حسن العقل، أجلسني أحمد بن جنبل الى جانبه.
وقال أحمد بن حنبل لصاحبه: «اقتبس من هذا الرجل فإنه ما رأت عيناي مثله، فإن فاتنا لن نعوضه أبدا».
ثم عاد الشافعي من جديد الى كتابه الرسالة، يتأمله ويهذبه حتى استقام له علم أصول الفقه، فرأى أن يذهب الى العراق يعرض على شيوخه هذا العلم الجديد ويناظرهم فيه.
كان قد جاوز الخامسة والأربعين، وقد أصبحت له بمكة مدرسة وأتباع. وقد أطلقوا عليه في مكة «المفتي المكي»، و«العالم المكي».
وجلس في حلقة بجامع بغداد، يشرح للناس ما وصل إليه في «الرسالة» من أصول.
وهناك بهر بعلمه الفقهاء والتلاميذ..
ذلك أنه قد انتهى الى أن القرآن الكريم قد جمع الأحكام وجاءت السنة شرحا وتبيانا لما في القرآن..
فعلى المجتهد أن يبحث عن الحكم في القرآن أو السنة.. فإن لم يجد ففي إجماع الصحابة.. إجماع الصحابة في كل الأقطار لا في المدينة المنورة وحدها، بحيث لا يصح إجماع إلا إذا اتفق عليه كل الصحابة.
فإن لم يجد المجتهد حكما في كل ذلك، فعليه أن يبحث في علة الحكم الواردة بالنص، ويلحق بهذا الحكم ما يتشابه معه في العلة من القضايا الجديدة، وهذا هو القياس، وبهذا أرضى الشافعي أهل الرأي وأهل الحديث جميعا.
احتفلت به بغداد كما لم تحتفل بفقيه زائر من قبل، وفرح به تلميذه أحمد ابن حنبل الذي كان ألف أن يختلف الى حلقته ويلزمه كلما زار مكة حاجا أو معتمرا، قاصدا إليها على قدميه.. وتمنى التلميذ على أستاذه أن يقيم في بغداد سنوات فينشر علمه ويؤسس فيها مدرسة فقهية جديدة.
ولكن الحياة لم تطب للشافعي في بغداد.. لكم تغيرت بغداد خلال هذه السنوات الطوال التي أقامها الشافعي في مكة..!
لم تعد بعد هي بغداد التي أحبها.. مات خير أصدقائه محمد ابن الحسن، ولحق به آخرون، وسجن الباقون أو تركوا العراق، وذهب الرشيد، فاضطربت الأمور بعد موته.. اختلف أولاده.. وحارب الأخ أخاه على الخلافة.. فقد ولى الأمين، ولم يكد يستقر على العرش حتى وثب عليه أخوه المأمون فقتله، وتولى مكانه.
وما زالت أصداء النواح على البرامكة تملأ آفاق بغداد، منذ نكبهم الرشيد. وهم أقرب الناس إليه، وأعمل فيهم السيف وآلات التعذيب حتى لا يرى فوق ظهرهم برمكيا.
ثم إن الرشيد بطش بكل معارضيه، وما زالوا تحت الأصفاد في كهف سحيق.. وما انفك من بين رجال العلم من يكيد لمخالفيه في الرأي ويحاول أن يوقع بهم عند المأمون، الخليفة الذهبي..
وشيء جديد يشغل مجالس الفقه عما ينبغي أن تشتغل به مما يفيد الناس في دنياهم.. فالأفكار التي تطرح على ندوات العلم والفقه هي صفات الله علاقتها بذات الله تعالى.. والجبر والإختيار.
ثم إن العناية بالقرآن الكريم قد عدلت عن تدبر آياته فهم الأحكام منها، تحري مقاصدها بما يضبط معاملات الناس وسيرتهم في دينهم ودنياهم، وانصرف العلماء والفقهاء إلا قليلا الى مناقشة صفة القرآن الكريم: أقديم هو أم مخلوق؟
جدل نهى الصحابة عنه، وأنصرف عن مصالح العباد، ومباحث ما كانت تشغل حلقات العلم والفقه من قبل.، بل كانت تعرض لتختفي، فها هي ذي الآن تسيطر على العقول والقلوب.! وهكذا كله غير ما ينبغي أن يشغل المسلمون!! إ، هذا لشيء عجيب..
وعلى الرغم من الإزدهار الحضاري الفائق، فقد أحس الشافعي أن الجسارة الفكرية في مواجهة مقتضيات الحياة باستنباط الأحكام قد بدأت تنحسر، ليزحف مد جسارة زائفة، هي بالجرأة على الشريعة نفسها، وشغل الناس بما لا ينفعهم في مواجهة حياة كل يوم.
يواكب هذا كله دعوة ملحة الى الزهد فيما أحله الله لعباده، وحض الناس على القناعة بالفقر، ليكنز الكانزون، ويستمتعون دون الرعية حتى بما حرم الله..!
لم تغد بغداد هي المدينة التي أحبها الشافعي من قبل، وافاد من مناظراته لعلمائها، وأتقن فيها علوم الطب والفلك، والفقه.
وإذن ما بقاؤه في بغداد؟!
وإلى من يأنس فيها؟!
ومع من يقضي وقته!؟
لقد ألف حين زارها في المرة الماضية أن ينفق وقته مع صفيه وأستاذه محمد بن الحسن.. أين رفاق ذلك الزمان من العلماء والفقهاء؟ لا أحد بعد!.
والإنسان يحب من المدائن تلك التي يجد فيها الراحة والألفة، وحسن الصحبة، وجمال الرفقة.. ولكنه الآن في بغداد لا يجد من يأنس إليه غير أحمد ابن حنبل. إنه لأحب تلاميذه إليه حقا، وما يقيم الشافعي عليه في بغداد الآن إلا من أجل أحمد بن حنبل..
ومر عليه شهران في بغداد، واستدعاه المأمون، فعرض عليه أن يوليه منصب قاضي القضاة، وهو المنصب الذي كان يشغله محمد بن الحسن أيام الرشيد، ولكن الشافعي كان قد آلى على نفسه ألا يتولى منصبا، وأن يخصص كل وقته للفقه، فإن وجد متسعا من الوقت فليخصصه للشعر، وما أقل ما كان يجد الوقت لممارسة هذا الفن الحبيب إليه!.. وما أكثر ما كان يخشى أن يعرف عنه أنه قد أدركته حرفة الشعر فينبذه الفقهاء المتزمتون.؟
***
وتلقى دعوة الى زيارة مصر من واليها الجديد، ومن أحد تلاميذه الذين أملى عليهم «الموطأ» في مكة من قبل، وألف استقباله في كل موسم حج، وقد أصبح تلميذه هذا الآن فقيها ذا شأن في مصر وتاجرا واسع الغنى وهو ابن عبد الحكم.
لقد طوف الشافعي في الآفاق وعرف الدنيا وعرف الناس، زار اليمن والعراق والشام فارس والأناضول، إلا البلد الذي سمع بما فيه من علم وحكمة، وتمنى أن يزوره.. زار كل عواصم الفقه... إلا مصر..!
وتاقت نفسه الى زيارة مصر.. إنه يعرف أن أول كتاب ترجم الى اللغة العربية هو كتاب مصري في الطب، ترجمه في صدر الإسلام عالم قبطي من أهل مصر.. وقد تعلم الشافعي من هذا الكتاب.. وهو يعرف أن حكماء اليونان الذين بهرته أفكارهم وكل آثارهم، قد تعلموا الحكمة والطب والفلسفة والرياضيات في مصر القديمة.. وهو يعرف أن مصرف من بين كل البلاد المفتوحة هي البلد الوحيد الذي عرف عقيدة التوحيد قبل الديانات السماوية.. من يدري؟. ربما كان بها رسل وأنبياء ممن لم يتحدث عنهم القرآن، وقد أخبر الله تعالى الله رسوله (صلى الله عليه) في القرآن بأنه أرسل م الرسل من لم ينزل قصصهم في القرآن، ولم ينبئه بأمرهم فيما أنزل عليه من أنباء الغيب.!
وهو يعرف أن في مصر مزيجا من الحضارات، وأن الحضارة المصرية القديمة قد شكلت الإنسان المصري فعلمته حب العدل والحرية والحقيقة والحكمة، ثم جاءها الإسلام فأنبت فيها نباتا طيبا، وصاغ لها حياة خصبة من الأخوة.. وإنه ليتوق الى التعرف على ما تركه الصحابة الأوائل في مصر، منذ جاءوها في جيش الفتح، وهو بعد يريد أن يعايش تلك المدرسة المصرية العظيمة في الفقه الإسلامي، الغنية باجتهادات الإمام الليث، رائد الشافعي في الطريق الوسط بين أصحاب الرأي وأهل الحديث.
وأصبح الشافعي ذات يوم فأعلن أنه راحل من غده الى مصر، فألح عليه تلميذه أحمد بن حنبل أن يبقى معهم في بغداد. ولكن الشافعي كان قد عزم فما عليه إلا أن يتوكل.
وزار قبر الإمام أبي حنيفة، وصلى ركعتين... ولاحظ مرافقوه أنه عدل عن قواعده في حركات الصلاة الى قواعد أبي حنيفة. فلما سألوه في ذلك قال: «ادبا مع الإمام أبي حنيفة أن اخالفه في حضرته».
واجتمع خلق كثير في وداع الشافعي. أحمد بن حنبل ما برح يحاول إقناعه بالبقاء في بغداد، فيمسك الشافعي بيد ابن حنبل ويترنم:
ومن دونها أرض المهامه والقفر
لقد أصبحت نفسي تتوق ال مصر
أساق إليها أم أساق الى القبر
ووالله ما أدري أللفوز والغنى
وبكى أحمد بن حنبل.. وبكى الشافعي والحاضرون، ودعا الشافعي أحمد بن حنبل أن يزوره في مصر، فوعده أحمد بالزيارة إن شاء له الله.
وصل الشافعي الى مصر، واستقبله على أبواب الفسطاط عدد من الفقهاء ورجال الدولة كلهم يستضيفه ويلح عليه أن يقبل الضيافة. ودعاه الوالي الى منزل كبير خصصه له، ولكن الشافعي آثر الإقامة عند أقارب أمه، تشبها بالرسول عليه الصلاة والسلام حين هاجر الى يثرب، فأقام عند أخواله.
وكانت جماعات القبائل العربية ما زالت تفد الى مصر منذ الفتح الإسلامي، فتتوطن المنازل التي تألفها، إما في الفسطاط أو في الأقاليم.
وكان أول ما صنعه الشافعي حين استقر به المقام أن ذهب الى قبر الإمام الليث فزاره.
وقال وهو يقف على قبره: «لله درك يا إمام، لقد حزت أربع خصال لم يكملن لعالم، العلم والعمل والزهد والكرم».
وبعد أن فزع من زيارة الإمام الليث سأل عن دار السيدة نفيسة. وكانت تقيم بمصر. منذ سجن أبوها، وكان واليا على المدينة هي حفيدة الحسن بن علي زجها هو إسحق المؤتمن بن الإمام الصادق جعفر بن محمد حفيد الحسين بن علي رضي الله عنهم.
واستأذنا للإمام الشافعي في زيارتها فأذنت له، ورحبت به، وأعجبها عقله وورعه، وسمع منها ما لم يكن قد وصله اليه من أحاديث شريفة.
وألف منذ تلك الزيارة أن يجلس في حلقتها فيسمع، ويقرأ عليها اجتهاداته.. وكان إذا أقعده المرض عن زيارتها أرسل يسألها الدعاء فتدعو له بالشفاء..
وبعد أن فرغ من أول زيارة للسيدة نفيسة سأل مرافقيه أن يصحبوه الى «تاج الجوامع» ـ فهكذا كان يسمى جامع عمرو إذ ذاك ـ فوجد الجامع يعج بحلقات الدرس، وشاهد عجيبا..! لم تكن كلها حلقات قرآن وحديث وفقه.. بل كانت فيها حلقات للقصص، واللغة، والشعر، وسائر فنون الفكر والمعرفة.. ما أروع انطلاق الحياة الفكرية هنا..! لقد كان من قبل يقول في حسرة:
لكن الآن أشعر من لبيد
ولولا الشعر بالعلماء يزري
لكنه هنا يستطيع أن يقول الشعر بلا حرج في هذه البيئة الفكرية السمحة.
جلس للتعليم والإفتاء، وفي أول حلقة له بالجامع جلس القرفصاء على حشية وكان مريضا بالبواسير وتصلب في الأطراف فاراد أن يمد رجله كما تعود منذ مرض عملا بنصح الأطباء، ولكنه لم يفعل تحرجا منه، واحتراما لبعض أتباع مالك وأبي حنيفة.. كان أتباع أبي حنيفة يكثرون الفروض ويبحثون عن أحكام للوقائع المفترضة.. سأل أحدهم: «إذا حمل رجل قربة بها ريح نجس أينقض وضوءه؟». «هل انكشاف العورة ينتقض الوضوء». فأجاب الشافعي: آن للشافعي أن يمد رجله».
وجد تقاليد جديدة في الحلقات.. فالأستاذ لا يلقي الدرس على طلاب يستمعون، كما ألف من قبل وبصفة خاصة في حلقة الإمام مالك.. ولكن الأستاذ يبدأ درسه بكلام قليل، ثم يدير حوارا بينه وبين التلاميذ، ومن خلال المحاورات تنفجر المسائل وتنضح الآراء.
كانت هذه هي تقاليد المدرسة المصرية القديمة، وعليها تعلم فلاسفة الإغريق ومنها أخذوا أسلوبهم في المحاورات...
وعلى هذا النهج سارت المدرسة المصرية في الفقه الإسلامي.
واتبع الشافعي هذا التقليد حتى في درس القرآن والتفسير..
وأحاط به تلاميذ الإمام الليث وأطلعوه على ما حفظوه من شيخهم.. وكان يحسب أنهم هم الذين يلون القضاء، وأن إليهم أمر القضاء، ولنه وجدهم معزولين، يضطهدهم المتعصبون!
ووجد الحياة الفقهية تنازعها أنصار الإمام مالك وأنصار الإمام أبي حنيفة، والغلبة لأنصار الإمام مالك، فيهم مغالون يشتطون، حتى لقد يؤذون من يعلن الخلاف مع مالك من أتباع الليث أو أبي حنيفة.
وجادل الإمام الشافعي بعض هؤلاء المشتطين، وقال لهم إن الإمام «مالك» بشر يخطئ ويصيب. فانتفض أحدهم في وجه الإمام الشافعي، وسفه عليه، ووجه اليه كلمات بذيئة، وحمل الحاضرون هذا المتعصب السفيه وأخرجوه من المجلس، والشافعي مستمر في حديثه كأنه لم يسمع شيئا...!
وعرف الشافعي أن هذا السفيه اسمه «فتيان» وبعد انتهاء الدرس طالب تلاميذه أن يصفحوا عن ذلك السفيه..
ووضع الشافعي لنفسه نظاما لم يحد عنه. أن يبدأ دروسه بعد صلاة الفجر بعلوم القرآن، فإذا انتهى منها جلس الى درس الحديث.. ثم يجلس بعد هذا مجلسا لم يجلسه من قبل في حلقة قط، ولكنه تمنى أن يجلسه، وهو مجلس علوم اللغة والشعر وشتى المعارف الإنسانية الأخرى... وفي هذا المجلس الأخير كان يعظ من يستمع إليه أو يحاوره: «إنما العلم علمان: علم الدين وعلم الدنيا.، فأما الذي هو علم الدين فهو الفقه، والعلم الذي للدنيا هو الطب، فلا تسكن بلدا ليس فيه عالم يفتيك عن أمر دينك ولا طبيب ينبئك عن أمر بدنك».
في مجلسه الثالث كان إذا لم يجد بين الحاضرين من يحسن مذاكرته في الشعر والأدب والعلوم الإنسانية طلب من صحبه أن يبحثوا له عن أدباء مصر وشعرائها وعلماء المعارف الإنسانية، فما يزالون يتذاكرون حتى تحين صلاة الظهر، فيصلي بهم، أو يصلي خلف واحد منهم، وينصرف الجميع.
ويعود الشافعي الى داره.. وقد يصطحب بعض صحبه للغداء معه، لم ينصرف الى العمل..
وقد تعلم من أستاذه مالك بن أنس أن يحمل الناس على احترام خلوته للعمل عكوفه عليه.. فالعمل عبادة يجب ألا يخلطها بشيء آخر، ويجب ألا يسمح لأحد بإفسادها، فالعلم لا يأتيك بعضه إلا أن تؤتيه كلك..
حتى إذا فرغ من العمل وصلى العشاء، جعل جزءا يسيرا من الليل لاستقبال الضيوف، فيسمرون معا، ويتذاكرون الشعر والأخبار، وبعض ما يسري عن النفس في سمر لطيف عذب.
وكان حسن الإصغاء، محبا للطرائف، وقد أعجبته الملح المصرية، فهو يطلب حكايتها من أصحابه المصريين معلنا إعجابه بظرف أهل مصر..
هو نفسه يحكي الطرائف مما شاهد في رحلاته الطويلة..
من ذلك أنه رأى في المدينة المنورة أربع عجائب لم يرها في بلد قط.. رأى جدة عمرها إحدى وعشرون سنة!! وقاضيا حكم بإفلاس تاجر في دين قيمته أربعة أرطال من نوى البلح!! وشيخا عمره تسعون عاما يدور نهاره حافيا راجلا قائما يعلم القيان الرقص والغناء، فإذا جاءت الصلاة صلى قاعدا.. واليا كان صالحا طيبا فقال: «ما لي لا أرى الناس يجتمعون على بابي كما يجتمعون على أبواب الولاة؟». قالا له: «لأنك لا تضرب أحدا ولا تؤذي الناس» فقال: «هكذا؟! علي بإمام المسجد». فأحضروا له إمام المسجد فأمسكوا به على باب الاولي، وجعل الوالي يضرب الإمام والإمام يصرخ «أصلح الله الأمير» إيش جرى.. «أي شيء جرى؟» وظل الإمام يصرخ والوالي يضربه حتى اجتمع الناس.. وسرى عن الوالي وطابت نفسه، فقد اجتمع الناس على بابه!!
كان مما يستعيد الشافعي روايته من ملح مصر، أن رجلا كان له غلام غبي، فقال له: «اذهب الى السوق فاشتر حبلا في طول خمسة عشر ذراعا». فسأله الغلام: «في عرض كم؟» قال الرجل: «في عرضك!! في عرضك!!» وغاب الغلام ساعة وعاد بلا حبل يقل: «لم أجد حبلا في عرضي».
***
اطمأنت الحياة بالشافعي في مصر. وجاء رمضان فصلى التراويح بالسيدة نفيسة، ولاحظ أن عددا من النساء يحضرون درس الفقه، منهن بعض زوجات تلاميذه وأخواتهم وبناتهم. وفي حلقة الفقه بالجامع جاءه رجل شاب كان قد طلق امرأته ثم ندم، وأرجعها في رمضان وقبلها في النهار وهما صائمان، اتجه الرجل الى الإمام الشافعي قائلا:
وضمة مشتاق الفؤاد جناح؟
سلوا المفتي المكي هل في تزاور
فأدناه الشافعي منه وقال مبتسما:
تلاصق أكباد بهن جراح
أقول معاد الله أن يذهب التقى
فأحاط بالرجل عدد من المتعصبين وسألوه، ليجعلوا من القصة مأخذا وسبيلا على الشافعي.. فزعق فيهم الشاب: «يا ناس.. أسأله عن امرأتي.
وحكى لهم حكاية إرجاعها وتقبيلها في نهار رمضان.. فالإمام الشافعي يرى أن قبلته لم تذهب تقاه وصيامه.. وهذا هو رأي إمامهم مالك نقلا عن عمر ابن الخطاب عن امرأته عن أم سلمة أم المؤمنين، عن رسول الله (صلى الله عليه)..
وفي هذه البيئة الفكرية المتحررة على الرغم من شغب المتزمتين استراح الإمام الشافعي في مصر، فانبسطت نفسه، وانطلقت أفكاره. وأخذ يذيع شعره وكثير منه مشهور مثل قوله:
وإن خانني بعد التفرق كتماني
وإني لمشتاق الى أرض غزة
كحلت به من شدة الشوق أجفاني
سقى الله أرضا لو ظفرت بتربتها
وقوله:
إلا عداوة من عاداك عن حسد
كل العداوات قد ترجى مدتها
وقوله:
ما الذل إلا في الطمع
حسبي بعلمي أن نفع
إلا كما طار وقع
ما طار طير وارتفع
وقوله:
وإذا مت لست أعدم قبرا
أنا إن عشت لست أعدم قوتا
نفس حر ترى المذلة كفرا
همتي همة الملوك ونفسي
ولكن الإمام الشافعي على الرغم من السماحة التي بهرته في مصر، كان يعاني من ضيق أفق المتعصبين وعدوانهم على الناس.. وكان هذا النفر ينتسب الى المذهب المالكي ويسيئون بسلوكهم الى سمعة أستاذه وشيخه العزيز عليه.. فنصب نفسه مفندا لدعاواهم.
مر في الطريق بفقيه من هؤلاء يمسك برجل ويتهمه في دينه، والأخير يهزأ بالفقيه.. وأوشكا أن يتضاربا، فخلصهما الشافعي وقال: ما خطبكما؟ فقال الفقيه: «رأيته يبول واقفا». قال الشافعي: «وما في ذلك»؟، قال: «يرد الريح من رشاشه على بدنه فيصلي به»، فسأله الشافعي: «فهل رأيته أصابه الرشاش فصلى قبل أن يغسل ما أصابه؟»، فقال: «لا.. ولكني أراه سيفعل». فضحك الشافعي وحاول أن ينصحه.. فغضب الفقيه، وعربد على الشافعي وسبه.. وتأمله الشافعي، فإذا هو «فتيان» الأحمق الذي سأل الشافعي حين قدم عما إذا كان ظهور العورة ينقض الوضوء، ثم شتمه بعد ذلك في جامع عمرو شتما منكرا.
وإن للشافعي مع «فتيان» هذا لشأنا..!
وكان «فتيان» هذا يقود جماعة من المتعصبين، يرهب بهم أتباع الإمام الليث لأنه خالف الإمام مالكا ابن أنس، ويرهب بهم من يلتفون حول الإمام الشافعي منذ اكتشف الشافعي أن الفقه المصري يختلف مع الفقه المالكي في كثير من الأصـول الفروع، فأخذ الشافعي برأي إمام الفقه المصري.. الليث ابن سعد.
شرع المتعصبون لمالك يتهمون الشافعي بأنه لا يعرف الحديث، فرد عليهم أنصار الشافعي بشهادة أحمد بن حنبل وهو من أكثر الفقهاء انتصارا للحديث: «ما من أحد من أصحاب الحديث حمل محبرة إلا للشافعي عليه منة. ذلك أن أصحاب الرأي كانوا يهزأون بأصحاب الحديث حتى قدم الشافعي الى العراق، وأقام الحجة عليهم!».
وعلى الرغم مما لقى الشافعي من المتعصبين، فقد ظل يتابع حلقات الحوار والدروس، والناس يفدون اليه من مختلف الأقطار والأمصار، مفتنين بطريقته في الإلقاء والجدل، وببلاغته حين يخطب الجمعة حتى أسموه «خطيب الفقهاء».
ومرت به الشهور في مصر، وهو ينتظر مقدم صديقه وتلميذه أحمد بن حنبل.. وكثيرا ما كان يشرد ويقول: «وعدني صاحبي أحمد بالقدوم الى مصر».. ويتمنى وينتظر..
على أن الواقع المصري الجديد، وما اطلع عليه الشافعي في مصر، من آراء وطرائق للاجتهاد، جعله يعيد النظر في كل ما كتبه من قبل.
لقد غير كثيرا من آرائه.
ومن أبرز الآراء التي ظهر فيها التأثير المباشر للبيئة المصرية رأيه في الماء.. فقد كان يرى كالإمام مالك أن من حق صاحب الأرض التي بها بئر أن يبيع الماء...
ولكنه في أرض النيل، تابع رأي الإمام الليث. في أن صاحب الأرض التي بها بئر ليس له إلا حق السبق في الاستعمال.. أي الامتياز فقط، وللغير بعد ذلك حق الشرب وسقي الأرض بلا مقابل.
وشرع يراجع كتاب «الرسالة» مرة ثالثة ويصقل ما تضمنه من أصول الفقه.. بل أخذ يراجع كل ما كتب من قبل فأحرق بعضه.
ونظر في الآراء التي تابع فيها شيخه (مالك)، وعكف على فقه مالك كله يمحصه على ضوء ما تعلمه في مصر من فقه الليث..
فأعلن في خاصته أن الإمام مالك بن أنس يقول بالأصل ويدع الفرع ويقول بالفرع ويدع الأصل.. ونشر كتابا عن خلافه مع مالك في الأصول والفروع.. وقال إنه مع الليث في خلافه مع مالك!
ثم عكف على فقه أبي حنيفة يمحصه وانتهى من دراسته الى نقد الإمامين مالك وأبي حنيفة. «فمالك أفرط في رعاية المصالح المرسلة وأبو حنيفة قصر نظره على الجزئيات والفروع والتفاصيل من غير مراعاة القواعد والأصول..» وهكذا.
وانقطع الشافعي، يعيد كتابة «الرسالة» ويؤلف كتبا جديدة في الفقه، وينقح ويصوب فيما لم يحرقه من الكتب القديمة..
وجهد جهدا شديدا في هذا العمل..
وروى بعض أهله: «ربما قدمنا المصباح في ليلة واحدة ثلاثين مرة أو أكثر بين يدي الشافعي، كان يستلقي ويتذكر وينادي: «يا جارية هلمي مصباحا» فتقدمه ويكتب ثم يأمر برفع المصباح. ثم يعد بعد برهة فيطلبه.. هكذا». وسألوه: «لماذا لا تبقي المصباح فقد أجهدت جاريتك وأهلك؟». فقال: «الظلمة أجلى لفكر» فقد كان لا يحسن التأمل إلا في السكون والظلمة.
وبعد أن فرغ من كتابة فقهه كله أرسل الى صديقه أحمد بن حنبل أن يخبر الناس بترك كل ما كتبه الشافعي من قبل، وأن يأخذوا آراء من كتبه المصرية وأرسل إليه هذه الكتب المصرية. فلما نظر فيها أحمد بن حنبل أعجب بها وسأله أحد أصحابه ما ترى في كتب الشافعي التي عند العراقيين أهي أحب عليك أم تلك التي كتبها بمصر؟ قال أحمد: .عليك بالكتب التي ضعها بمصر ف"،ه لم يحكم ما كتبه قبل ذلك ولكنه أحكم كل ما كتبه بمصر».
اتجه الشافعي بالفقه اتجاها علميا جديدا، فهو يعنى بالقواعد الكلية ولا يضيع وقته في الفروع، فالكلي ينطبق على الجزئيات.
وانتهى في استنباط الحكم من غير النص، إلى الاتجاه إلى الإجماع كمصدر للأحكام، لكنه لم يشترط إجماع الصحابة كما كان من قبل.
والشافعي يطالب الفقهاء الولاة والقضاة بإتقان اللغة العربية، لكي يفهموا النصوص حق الفهم.. فيها نزل القرآن تبيانا لكل شيء هدى ورحمة وبشرى للمسلمين.. فمن لا يتقن العربية غير جدير بالنظر في الشريعة.. وه يعني بإتقان العربية إتقان علمها من نحو وصرف فقه لغة وبلاغة أدب وشعر.
ولقد حضر رجل من خرسان حلقة الشافعي في جامع عمرو فسأله: «ما الإيمان؟
فرد الشافعي: فما تقول أنت فيه؟.
فقال الرجل: الإيمان قول.
قال الشافعي: من أين قلت بذلك؟
قال الرجل: من قوله تعالى: (إن الذين آمنا وعملوا الصالحات) فصارت الواو فصلا بين الإيمان والعمل.
فسأله الشافعي: فعندك الواو فصل؟ قال: نعم.
قال الشافعي: فإذن كنت تعبد إلهين إلها في المشرق وإلها في المغرب لأن الله تعالى يقول (رب المشرقين رب المغربين).
قال الشافعي: سبحان الله. أجعلتني وثنيا؟
قال الشافعي: بل أنت جعلت نفسك كذلك بزعمك أن الواو فصل.
قد استطاع الشافعي وهو في مصر أن يتحرر في آرائه.. فألف كتابا عن قتال أهل البغي لعله لم يكن يستطيع أن يضعه في غير مصر!.
وقتال أهل البغي قائم على تفسير قوله تعالى: (فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء الى أمر الله).
وقد رد هذا النص باقتتال المسلمين، إذا فئة منهم بغت على الأخرى..
وأهل البغي عند الشافعي هم معاوية بن أبي سفيان وجنوده الذين حاربوا أمير المؤمنين عليا بن أبي طالب.
الشافعي يرى قتالهم واجبا شرعيا..
وكان بنو علي مضطهدين في حكم بني أمية، ظلوا كذلك في حكم بني العباس.. الحكم الذي عاش في ظله الإمام الشافعي.. فرأيه في أهل البغي يؤيد حزبا تحاربه الدولة..
لم يحفل بذلك وهو في مصر، واحتج في قتال أهل البغي في حكم الأسرى منهم بما صنعه الإمام علي في معركة الجمل ومعركة صفين.. فهو لم يقتل أسيرا منهم، ولم يقتل رجلا مدبرا عن القتال. وهو لم يغنم من أموالهم إلا السلاح والخيل الدواب. أي أدوات الحرب وحدها! والإمام علي لم يقتل مدبرا من أهل البغي لأنه ربما كان هذا المدبر بإدباره قد رجع عن البغي ونوى البيعة لأمير المؤمنين. ولم يكن قتال أ÷ل البغي دراسة تاريخية، بل دراسة فقهية لأن الأحزاب تتقاتل، ينبغي أن يتحدد حكم واضح في الأمر كله..
ولقد نقد بعض أصحاب أحمد بن حنبل شيخه الشافعي على كتابه (قتال أهل البغي) وقالوا إنه متشيع، فقال أحمد: سبحان الله.. وهل ابتلي أحد بقتال أهل البغي قبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب!؟.
مرة أخرى يضطر الشافعي يضطر الشافعي الى الإشتغال بالسياسة.. ولكنه في هذه المرة يضطر الى الاشتغال بالسياسة لا بحكم الوظيفة أو المنصب، بل بحكم انشغاله الكامل بالفقه والعلم..! وقد أتاحت له البيئة الثقافية في مصر أن يفكر ويقول ويكتب في طلاقة وأمن.
***
وفي مصر تحدث الشافعي عن الشورى ومكانتها في الإسلام، واعتبرها فرضا على الحاكم والمحكوم.. بها أمر الله ورسوله.. كان الرسول (صلى الله عليه) يقول فيما لم ينزل فيه حي «أشيرا علي أيها الناس».. ما كان في حاجة الى مشورة، ولكنه أراد أن يسن لولي الأمر من بعده. وروي عن أحد الحكماء أنه قال: «وما أخطأت قط، إذا حزبني أمر شاورت قومي، ففعلت الذي يرون، فإن أصبت فهم المصيبون وإن أخطأت فهم المخطئون.
وعلى الحاكم أن يستشير أهل الرأي، يأخذ برأيهم فيما فيه مصالحهم.
ومن العدل أن يحسن اختيار الولاة، فقد قال الرسل(صلى الله عليه): «من لي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين».
والشافعي يرى أن الحاكم اجب الطاعة ما دام الناس قد اختاروه باختيار حر، بيعة لا إكراه فيها ولا زيف، ووإ، كان هذا الحاكم قد غلب على الأمر انتزعه من صاحبه.. وهو يكتسب الشرعية من مبايعة الرعية، فإن رأوا في أمر الحاكم ما يخالف الله رسوله فلهم ألا يطيعه.
واستند في هذا الى ما كان بين عثمان وعلي، فقد هاجم أبو ذر الكانزين وعاب سلوك معاوية وجماعته، فشكاه الى أمير المؤمنين عثمان بن عفان، فنهاه، فلم يسكت أبوذر، فنفاه الخليفة الى مكان منقطع بالصحراء اسمه «الربذة» وأمر بأن يتجافاه الناس، غير أن عليا بن أبي طالب صحب أبا ذر، وودعه كما ودعه عدد من الصحابة.!
فقال عثمان لعلي: «.... ألم يبلغك أني نهيت الناس عن أبي ذر وعن تشيعه؟». فقال علي: «أوكل ما أمرتنا به من شيء نرى طاعة الله والحق في خلافه اتبعنا امرك؟ بالله لا نفعل».
ثم إن الشافعي اهتدى الى أن عمل أهل المدينة ليس حجة على المسلمين في كل البلاد، فقد انتشر الصحابة في كل الأقطار وعلما الناس، قد وجد في عمل أهل مصر ما هو أدنى للعدل وروح الشريعة، كاستحقاق الزوجة لنصف المهر عند الطلاق.
***
بهذه الآراء الجديدة جلس الإمام الشافعي يعلم الناس ويحاورهم في حلقاته الثلاث: حلقة القرآن، وحلقة الحديث، وحلقة الادب المعارف الإنسانية..
وفي هذه الحلقات لخص قواعد أصل الفقه بقوله: «نحكم بالكتاب والسنة المجمع عليها التي لا اختلاف فيها، فنقول لهذا حكما بالحق في الظاهر والباطن، نحكم بنسبة رويت عن طريق الانفراد لا يجتمع الناس عليها أي الاحاديث التي يرويها آحاد، ونحكم بالإجماع ثم القياس وه أضعف من هذا، ولكنه منزلة ضرورية لأنه لا يحل القياس الخبر موجد».. وفي الحق أن الإمام الشافعي كلف نفسه من المشقة ما لا تحتمله طاقة بشر.
فقد أعاد في نحو خمسة أعوام كتابة ما ألفه في نحو ثلاثين عاما، وزاد على ذلك كتبا جديدة كتبها أو أملاها.
بلغ مجمع ما كتبه في مصر آلاف الصفحات، وجمع معظم ما ألفه في مصر في كتاب «الأم».
وشرع يدرس هذا كله في حلقاته، ويحاور فيه، وينصح مستمعيه ألا ينظروا في علم الكلام الذي يبحث في القدر والجبر وصفات الله، وأن يهتموا من علوم الدين بالفقه.
وقال: «إياكم والنظر في الكلام، فإن الرجل لو سئل عن مسألة في الفقه فأخطأ فيها كما لو سئل عن رجل قتل رجلا فقال ديته بيضة، كان أكثر شيء ان يضحك منه ولو سئل عن مسألة في الكلام فأخطأ فيها نسب الى البدعة».
أجهده طول الجلوس للكتابة والتدريس فاشتدت عليه علة البواسير ومرض الأطراف.
ولعل أخطر وأحرج ما كان يدور فيه الحوار في حلقات الإمام الشافعي هو خلافه مع الإمام مالك، في مصر من الحمقى والمتعصبين من لا يطيقون أن يجهر أحد بالخلاف مع مالك.
وقد اجتمع بعض هؤلاء بزعامة الفقيه الأحمق «فتيان» وطرح مسألة خلافية؟ وساق «فتيان» أدلة مالك في المسألة، وساق الشافعي أدلته.. وظهر الشافعي على «فتيان» وأقحمه، فضاق صدر «فتيان» وانفجر حمقه وشتم الإمام الشافعي شتما قبيحا.
وكان «فتيان» هذا قد كرر العدوان على الإمام الشافعي، والشافعي يصفح عنه.
ولكن أصحاب الشافعي ذهبوا هذه المرة للوالي ورووا ما كان من امر «فتيان» مع إمامهم، وحقق الوالي الشكوى وشهد الشهود على «فتيان» ولكن الإمام الشافعي سكت حين سأله الوالي، فقال الوالي: «لو شهد الشافعي على فتيان هذا لقطعت رأسه».
وأمر الوالي بأن يضرب «فتيان» بالسياط، ثم طيف به على جمل، وقد حلقت لحيته وشاربه ورأسه، ومن أمامه المنادي ينادي: «هذا جزاء من سب آل رسول الله(صلى الله عليه)»
ولم يكن الإمام الشافعي سعيدا بما حدث..
عاد الى بيته مهموما، وغلبه نزيف البواسير، فقد بلغ به الجهد الذي بذله وأثر فيه الإنفعال.
وقال من حوله: إنه ليعرف علته، ولكنه يخالف فيها الطب. فقد كانت علته تتطلب منه الراحة وعدم إطالة القعود في الكتابة أو في الحلقات.
وزاره طبيب مصري، فتناظرا في الطب، فأعجب به الطبيب المصري، وتمنى عليه أن يشتغل بالطب فقال الشافعي ضاحكا وهو يشير الى أصحابه المنتظرين خارج غرفته: «هؤلاء لايتركونني».
وخرج الشافعي من داره بعد أيام الى حلقته من جديد.
وتربص به بعض السفهاء ممن تعصبوا لفتيان.. حتى إذا خلت الحلقة من كل أصحاب الإمام الشافعي، وبقي وحده، وخلا الجامع من رواده، باغته السفهاء وانقضوا عليه يضربونه ضربا عنيفا بهراوات كانوا قد أخفوها في ملابسهم.. وظلوا يضربونه حتى سقط مغشيا عليه، وهربوا.
وحمل الإمام الى منزله فاقد الوعي، وعندما أفاق أخذ يعاني أوجاع الضرب، وآلا الصدمة، والنزيف!!
ولم يسعفه العلاج فأرسل الى السيدة نفيسة يسألها الدعاء كما تعود كلما ألم به مرض من قبل، فقالت لرسول الإمام «أحسن الله لقاءه ومتعه بالنظر اليه»
فعلم أنها النهاية.
وجاءه أحد عواده يقول له: «قوى الله ضعفك يا إمام» فتبسم الشافعي ورد عليه: «قوى الله ضعفي؟! أتدعو الله أن يزيدني ضعفا؟.. أدع الله أن يذهب عني ضعفي وأن يقوي عافيتي لا ضعفي».
ونصحه أن يعنى هو وسائر الفقه
يتصفح الموقع حالياً ( 20 ) زائر من الدول :
السويد ( 2 ) الإمارات ( 1 )
السودان ( 1 ) الأردن ( 2 )
السعودية ( 6 ) عمان ( 1 )
فلسطين ( 1 ) مصر ( 2 )
ألمانيا ( 3 ) الدنمارك ( 1 )
جميع الحقوق محفوظة لشبكة أرض الشرق
Ardalsharq.com 2000-2003
webmaster@ardalsharq.com
Tel: 20124501559
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق