السبت، 23 يونيو 2012
عمر بن عبد العزيز رحمه الله خليفة ومواقف
بقلم / عبد الله بن ناصر الديب
يكنى عمر بن عبد العزيز بأبي حفص وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب [1] .
ولد الخليفة الأموي الزاهد عمر بن عبد العزيز بالمدينة المنورة [2] سنة 62هـ في خلافة يزيد بن معاوية وقضى فيها معظم أيام شبابه ، وأثر فيه أهلها وفقهاؤها وذكرياتها ، وبعد وفاة أبيه دعاه عبد الملك إلى دمشق ، وزوجه ابنته فاطمة ، وفي خلافة الوليد بن عبد الملك عين والياً على الحجاز وأحسن إلى فقهائها وعلمائه وتقرب منهم ، لكن الوليد بن عبد الملك لم يلبث أن عزل عمر بن عبد العزيز إلا أنه ظل معززاً مكرماً لأنه كان معروفاً بتقواه وتمسكه بأهداب الدين .
جاءته الخلافة دون أن يسعى لها وكان كارها لها إذ أوصى له بها سليمان بن عبد الملك بناء على مشورة من العالم الجليل ( رجاء بن حيوة الكندي ) الذي كان مقرباً من سليمان يأتمنه ويأخذ برأيه .
وحين آلت الخلافة إليه لم يسر على نهج سلفه سليمان ، ولم يقبل على الدنيا واتخذ من سيرة جده عمر بن الخطاب مثلاً يحتذى به ويسير على هديه ، فاعتمد على الفقهاء وقربهم ، وجعل للقاضي منزلة ممتازة ومستقلة وكانت الدولة في رأيه لا تصلح إلا بأركانها الأربعة : الوالي ، والقاضي ، وصاحب بيت المال ، والخليفة وفي هذا يقول : ( إن للسلطان أركاناً لا يثبت إلا بها ، فالوالي ركن ، والقاضي ركن ، وصاحب بيت المال ركن ، والركن الرابع أنا ) .
ويروى أنه عندما تولي عمر بن عبد العزيز الخلافة بدأ بأهل بيته فأخذ ما كان في أيديهم وسمى ذلك المظالم ففزعت بنو أمية إلى فاطمة بنت مروان عمته - وكان يعزها ويكرمها - وسألوها أن تكلمه فيما اعتزم فقال لها : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سلك طريقاً فلما قبض سلك أصحابه ذلك الطريق الذي سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم فلما أفضى الأمر إلى بعضهم جره يميناً وشمالاً ، وأيم الله لئن مد في عمري لأردنه إلى ذلك الطريق الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ) .
فقالت له : يا ابن أخي إني أخاف عليك منهم يوماً عصيباً ، فقال : ( كل يوم أخافه دون يوم القيامة لا وقيته ) ، فرجعت فاطمة إلى بني أمية تقول لهم ذوقوا مغبة أمركم في تزويجكم آل عمر بن الخطاب ) .
ومن هذه الحادثة التي تثبت مدى تخلي عمر بن العزيز عن مظاهر الخلافة وزهده فيها ننتقل إلى حادثة أخرى تثبت أن ذلك الخليفة كان يحمل بين جوانبه نفساً تواقة للمعالي وكأني به يتمثل بيت الشاعر أبي الطيب المتنبي :
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
وتتلخص هذه الحادثة في أنه طلب رجلاً يشتري له كساء بثمانية دراهم ، فاشتراه له فأتاه به فوضع يده عليه وقال : ما ألينه وأعجبه ، فضحك الرجل الذي اشتراه لما سمع فقال له عمر : إني لأحسبك أحمقاً أتضحك من غير شيء ؟ قال : ما ذاك بي ولكنك أمرتني قبل ولايتك أن أشتري لك مطرف خز ، فاشتريت لك مطرفاً بثمانمائة درهم ، فوضعت يدك عليه فقلت : ما أخشنه ، وأنت اليوم تستلين كساء بثمانية دراهم ، فتعجبت من ذلك وأضحكني ! فقال عمر : ما أحسب رجلاً يبتاع كساء بثمانمائة درهم يخاف الله عز وجل ، ثم قال : يا هذا إن لي نفساً تواقة للمعالي ، فكلما حصلت على مكانة طلبت أكبر منها ، حصلت على الإمارة فتاقت إلى الخلافة وأدركت الخلافة فتاقت نفسي إلى ما هو أكبر من ذلك وهي الجنة ! !
بهذه الكلمات الرائعة عرفنا ما هي المعالي التي تاقت لها نفس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فهو عندما تولى الخلافة أدرك عظم مسؤليتها وأنها أمر تتمناه أي نفس وتتوق إليها - أي الخلافة - ولهذا فإن الخلافة عندما آلت تاقت نفسه إلى ما هو أكبر منها ألا وهي الجنة . ويروى أن زوجة الخليفة عمر بن عبد العزيز دخلت عليه يوماً وهو جالس في مصلاه واضعاً يده على خده ودموعه تسيل على خديه فقالت له : مالك ؟ فقال لها : ويحك يا فاطمة قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت فتفكرت في الفقير الجائع والمريض الضائع ، واليتيم المكسور ، والأرملة الوحيدة والمظلوم والمقهور والغريب والأسير والشيخ الكبير وذي العيال الكثير وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد ، فعلمت أن ربي عز وجل سيسألني عنهم يوم القيامة وإن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم فخشيت أن لا تثبت لي حجة عند خصومته فرحمت نفسي فبكيت .
وننتقل إلى حادثة أخرى تدل على تخلي الخليفة عمر بن العزيز عن مباهج الحياة وزهده فيها بعد أن آلت إليه ، حيث يذكر أنه كان لعمر بن عبد العزيز غلام يقال له : ( درهم ) يحتطب له ويرعى أغنامه ، فقال له يوماً : ما يقول الناس يا درهم ؟ قال : وما يقولون ؟ كلهم بخير وأنا وأنت بشر ، قال : وكيف ذلك ؟ قال : إني عهدتك قبل الخلافة لباساً فاره الركب طيب الطعام ، فلما وليت رجوت أن أستريح وأتخلص فزاد عملي شدة وصرت أنت في بلاء قال : فأنت حر اذهب عني ودعني وما أنا فيه حتى يجعل الله لي منه مخرجاً .
ويروى أن أحد عمال عمر بن عبد العزيز على أحد الأقاليم كتب إليه يشكوا خراب مدينته ويسأله مالاً يحصنها به فكتب إليه عمر : ( قد فهمت كتابك ، فإذا قرأت كتابي فحصن مدينتك بالعدل ووثق طرقها من الظلم فإنه حرمتها والسلام ) بهذه الكلمات الموجزة يقدم الخليفة الزاهد النصح للولاة ويدعوهم إلى العدل ونبذ الظلم ، وقد قيل : لا ملك إلا بالجند ولا جند إلا بالمال ولا مال إلا بالبلاد ولا بلاد إلا بالرعايا ولا رعايا إلا بالعدل .
وفي وقت يكون فيه البعض ممن يأتون على رأس الإدارة قد جعل كافة التنظيمات والصلاحيات صغيرها وكبيرها في يده وهو ما يعرف في الوقت الحاضر ( بمركزية الإدارة ) نرى عمر بن عبد العزيز يلغي هذه المركزية ويصبح النظام في دولته نظاماً لا مركزياً دون الإضرار بمصالح الأمة حيث يروى أن عمر بن عبد العزيز كان يكتب إلى عبد الرحمن عامله على المدينة في المظالم فيراجعه فيها فيكتب إليه : ( إنه يخيل لي لو كتبت إليك أن تعطي رجلاً شاه لكتبت إلي أذكراً أم أنثى ، ولو كتبت إليك بأحدهما لكتبت ضائنة أم معزى ، فإذا كتبت إليك فنفذ ولا ترد علي والسلام ) ، ويالها من سياسة رائعة من حاكم خلد التاريخ ذكره حتى أن سفيان الثوري [3] عده من الخلفاء الراشدين إذ قال سفيان : الخلفاء خمسة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز . لذلك عرف عمر بن عبد العزيز بالخليفة الخامس .
كما يروى أنه قيل لعمر بن عبد العزيز رضى الله عنه : يا أمير المؤمنين بيدك المال ولسنا نرى في بيتك شيئاً مما تحتاج إليه ويحتاج إليه البيت فقال : إن البيت لا يتأثث في دار النقلة ، ولنا دار نقلنا إليها خير متاعنا ، وإنا عن قليل إليها لصائرون ، يعني الآخرة .
هكذا هي أخلاق المسلم الذي جعل همه العمل لدار الآخرة ، ولم يمض جل وقته في تأثيث دار هو اليوم فيها وغداً يفارقها إلى دار البقاء والخلود هكذا هي أخلاق عمر بن عبد العزيز لأنه كان قرين التواضع والزهد وفي أسوأ حالات الإنسان وهو قرب منيته وفي أوقات دنو الأجل وفي لحظات لا يصمد فيها سوى الإنسان المؤمن نجد عمر بن عبد العزيز هو ذلك الإنسان المؤمن الذي لم يندم على أفعاله الصالحة ، فيذكر أنه دخل عليه مسلمة بن عبد الملك [4] وكان عمر بن عبد العزيز في المرض الذي مات فيه فقال له ، يا أمير المؤمنين إنك قطعت أفواه ولدك عن هذا المال وتركتهم عالة ولا بد لهم من شيء يصلحهم ، فلو أوصيت بهم إلي أو إلى نظرائك من أهل بيتك لكفيتك مؤونتهم ، فقال عمر : اجلس ، وأجلسوني ثم قال عمر : ادعوا إلي أبنائي ، فدعوهم وهم يومئذ اثنا عشر غلاماً ، فجعل يصعد بصره فيهم حتى اغرورقت عيناه بالدمع ثم قال : بنفسي فتية تركتهم ولا مال لهم ، يا بني إني تركتكم من الله بخير ، إنكم لا تمرون على مسلم أو معاهد إلا ولكم عليه حق واجب ، يا بني مثلت رأيي بين أن تفتقروا في الدنيا وبين أن يدخل أبوكم النار فكان أن تفتقروا في الدنيا إلى آخر الأبد خيراً من دخول أبيكم يوماً واحداً في النار ، قوموا يا بني عصمكم الله ورزقكم ، فقال مسلمة : إنه ما أحتاج أحد من أولاد عمر ولا افتقر .
هكذا كان عمر بن عبد العزيز . وهكذا كانت سيرته فإذا سألت عن خلافته أجبتك بقول الشاعر [5] :
أتته الخلافة منقادة إليه تجرجر أذيالها
ولم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها
وإذا سألت عن ليلة وفاته أجبتك : ( بأنه في الليلة الظلماء يفتقد البدر ) .
فقد توفي عمر بن عبد العزيز في الخامس والعشرين من رجب سنة 101 هـ بدير سمعان وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وبضعة أيام وبوفاته آلت الخلافة إلى يزيد بن عبد الملك .
________________________
(1) فعمر بن الخطاب جد لعمر بن عبد العزيز لأمه .
(2) هناك روايات أخرى تذكر أنه ولد سنة 61 ه(ابن خياط 1/225) أو سنة 63 ه(ابن سعد ج 5 ، ص 243) أما بالنسبة لمكان مولده فترى بعض الروايات أنه ولد في(حلوان) في مصر (ابن خياط ج 1 ، ص 63) بينما ترى أخرى أنه ولد في المدينة المنورة(ابن عبد الحكيم سيرة عمر ص 24) والراجح أنه ولد في المدينة المنورة لأن والده لم يتول ولاية مصر إلا سنة 65 هـ .
(3) هو أحد التابعين .
(4) هو أخو الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك وسليمان ، قاد مسلمة الحملة التي توجهت إلى القسطنطينية سنة 98هـ ولم يحالف النجاح هذه الحملة .
(5) هذه الأبيات من قصيدة لأبي العتاهية في الخليفة المهدي العباسي محمد بن أبي جعفر المنصور يلقب بالمهدي .
* أبرز المراجع :
1- سيرة ومناقب عمر بن العزيز الخليفة الزاهد للحافظ جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي .
2- خلافة بني أمية ، د / نبيه عاقل .
3- نوادر من التاريخ للأستاذ صالح الزمام (عدة أجزاء) .
4- العلم والعلماء للشيخ أبي بكر الجزائري .
رابط الصفحة : http://www.denana.com/articles.php?ID=979
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق